الرأي

التمثال بين الحرية والعبودية

عبدالله العولقي
علاقة الإنسان بالتمثال علاقة تلازمية، وقد عرف الشرق فكرة التماثيل ورمزيتها في الذهنية الإنسانية قبل الغرب، فالمصريون يعدون تمثالهم الأشهر (أبوالهول) رمزا لهويتهم وشاهدا على عظمة تاريخهم القديم، بل إن المسلات الفرعونية التي تتزين بها مدن العالم مثل باريس وواشنطن وإسطنبول تأتي في سياق رمزية عامة للحضارة الإنسانية، وربما تمثل فكرة الحرية والإرادة عند الإنسان.

عندما أطلق الفنان الأمريكي ميل جيبسون صرخة الحرية في الفيلم الشهير (القلب الشجاع)، تفاعل معها الأمريكان بشدة واستدعوا معها قيمة الحرية التي دشنها الآباء المؤسسون لوطنهم، إضافة إلى أن تمثالهم الشهير في نيويورك لا زال يحمل في نفوسهم قيمة ثقافية لحضارتهم التي تأصلت على معنى الحرية، ولكنهم عندما اقتحموا بغداد في 2003 وحطموا تمثال صدام حسين خدعوا العراقيين بشعار الحرية، فخرج العراقيون مستبشرين بانقضاء حقبة الحديد والنار، وتوهموا أنهم مقبلون على فردوس الحرية، ولكنهم صدموا بقيود العبودية وأكبال الاحتلال الإيراني!

رمزية التمثال قد تتخفَى أحيانا في صيغة الرسالة السياسية، فعندما التقى الرئيس بوتين نظيره التركي إردوغان، حرص الروس على تنصيب تمثال مصغر على طاولة اللقاء، يعبر التمثال - كما فسره البعض - عن عبور الروس التاريخي تجاه منطقة البلقان، وانتصارهم على الأتراك العثمانيين عام 1878م.

في هذه الأيام، تشهد الولايات المتحدة وأوروبا عاصفة هوجاء ضد ثقافة العنصرية بعد حادثة مقتل جورج فلويد، استهدفت الاحتجاجات أغلب التماثيل الوطنية التي ناصرت يوما ما فكرة العبودية أو العنصرية، فقد حطم المحتجون تمثال مكتشف أمريكا كريستوفر كولومبوس، وأضرموا فيه النيران قبل أن يلقوه في بحيرة فيرجينيا، وهذا السلوك الاحتجاجي رافقه تأييد وتوافق فكري بين الأوروبيين، ففي بريطانيا وافقت جامعة ليفربول على طلب قدمه طلاب وأساتذة الجامعة، يتضمن مشروعا ينص على إعادة تسمية مبنى يحمل اسم رئيس الوزراء السابق ويليام غلاد ستون بسبب آرائه المعروفة حول العبودية، ووجه الطلاب رسالتهم المفتوحة بأن هذه الخطوة ستوحد تضافرنا كبريطانيين ضد ثقافة اضطهاد السود، كما أسفرت الاحتجاجات في العاصمة لندن عن إزالة تمثال تاجر العبيد روبرت ميليغان من أمام متحف دوكلاندز، أحد أشهر متاحف العاصمة الإنجليزية.

أخيرا، لا شك أن الحضارة الإسلامية قد سبقت الأوروبيين والغرب في تأصيل معنى الحرية ورفض العنصرية، وربما لهذا السبب لا تتزين أغلب الحواضر العربية والإسلامية بتماثيل الحرية، وفي ظل أجواء الاحتجاجات الشعبية في الغرب ربما تجد بعض القوى السياسية فرصة لركوب الموجة وتحقيق أجندتها مثلما حصل في منطقة الشرق الأوسط إبان احتجاجات الربيع العربي، وهذا ما يصنعه الديمقراطيون حاليا في هجومهم الشرس ضد الرئيس الحالي ترمب وتحميلهم إدارته مسؤولية الأوضاع الحالية، لكن المضحك المبكي نجده في منطقتنا، خاصة من بعض اليساريين العرب والمتأخونين وتأييدهم لمظاهر الحرية في أمريكا بينما هم ينصبون تماثيل العبودية في أذهانهم وفكرهم عندما يؤيدون التدخلات التركية والإيرانية في أوطانهم!