الكلمة التي لا تعرف العمر
الثلاثاء / 24 / شوال / 1441 هـ - 20:15 - الثلاثاء 16 يونيو 2020 20:15
كلمة أطلقها المستغيث جورج فلويد في آخر رمق من حياته، بعد أن تسلل قليل من الأكسجين إلى رئتيه، مختلسا الطريق من تحت ركبة الشرطي الغاضب، الذي ينتصر لنصرة قانون التزوير بعد أن تلقى بلاغا يفيد بتقديم ذلك المستغيث 20 دولارا مزيفة لمتجر للتموينيات الغذائية بمدينة مينيابولس التي تعد أكبر ولاية بميناسوتا الأمريكية.
هذه المدينة أخذت نصيبها من الأفلام الكوميدية والتراجيدية عبر الزمن كفيلم حسرة الطفل Heartbreak kid، ورواية كورت فونيجوت المناهضة للحرب، التي يُجسد فيها الخيال المطلق، لتتبع شخصية الجندي الأمريكي ومساعد القسيس - بيلي بيلجرام - منذ الصغر حتى يقع في قبضة الجندي الألماني في فيلم المسلخ الخامس Slaughterhouse five.
وحتى قصة الفيلم الذي لا يعكس اسمه محتواه Young adult، الشابة المنتجة المفكّرة، لا بل الكاتبة المطلقة والمدمنة التي تستيقظ في نهاية الفيلم من غفوتها، لتستكمل كتابة الفصل الأخير من روايتها. فلم تترك هذه الرواية الجمال يكتمل في أوصاف الفتاة. فتتجلى صورة مشرقة عن المدينة التي صورت شوارعها ومتاجرها بالفيلم، بل جعلت الإدمان سمة أثرت على ما سبقه من صفات لها.
وكأن هذه المدينة المضطربة في ذاكرة التراث الدرامي، سُخر لها لتكون صاخبة مشتعلة، ممتلئة شوارعها بأطياف الناس الغاضبة. إنذار الإعصار العاتي الذي يعصف بالمدن، فتتطاير منه الألواح الخشبية من أسطح المباني، ويقتلع الأشجار المعمرة فيسد بها طريق الأمل، حتى تبقى غارقة في الوحل لأيام. باتت المدن المضيئة في الظلام، وقد يتأخر عمال الصيانة لاستعادتها، لأن الريح قاسية، والإعصار مازال يجول من المحيط إلى المحيط، فعلّه يعشق السماء فيرتفع بزوابع الكورونا معه.
لم تأخذ الولاية شيئا من مسمى فيلم Beautiful girls الذي ركز على الطبقة البشرية نفسها التي انطلقت منها أغاني المغني الشهير شون كينغستون، فعند التدقيق في محتويات النصوص الغنائية، تلمح دون عناء الصبي المهمش الذي يحاول الانتحار، أو غير المبالي بالحياة، بسبب فشل علاقته مع الفتاة الجميلة.
عذرا فقد خرجت بكم ما يكفي عن هدف المقال، لم تكن تلك الكلمة التي أشعلت الشرارة في معظم الدول الديمقراطية «لا أستطيع التنفس» هي محور حديثي. فما زالت شرارتها مشتعلة، وصنبور وقودها مفتوحا، وإنما كلمة لم يدركها من التقط الجزء الأول من المقطع، ليشعل بتلك الكلمات الشرارة التي طالما انتظرت تلك اللحظة لانطلاقها.
تنفس جورج فلويد فنطق بأمي أمي مستنجدا بمن تنقذه إذا خاف، وتتألم إذا تألم، وتسهر إذا مسته الحمى. طالما ارتمى بحضنها الحنون، فغفى على همس ضربات قلبها الرقيق، لكن يخفت الصوت دون مجيب لذلك المكلوم.
الأم التي استنجد بها الرجل الأربعيني لم تكن حاضرة المشهد، بل غابت روحها، ودفن جسدها منذ 2018 بهيوستن التي تبعد ما يزيد على 1000 ميل عن مركز الصوت الذي يفقد الصدى. الأم التي تربي فتقول: أرق على أرق ومثلي يأرق / وجوى يزيد وعبرة تترقرق. إنّه صوت ينادي: وما صبابة مشتاق على أمل / من اللقاء كمشتاق بلا أمل.
عشقه لتلك الأم التي عاش معها بعد انفصالها عن والده، ونقش اسمها بجسده، والتي وصفها بمركز عالمه. صدق! فالأم هي العالم في الحضور والغياب. والسعادة والأنس، والفخر والاعتزاز، والرضا والقناعة، والإيثار والتضحية.
نداؤه: أمي أمي أغيثيني، فقد أحاط بي الألم، فلا عمل أجد، ولا معين من الناس يدي له أمد. نجوت من الفيروس، وفاضت روحي ضحية لهوى النفوس، أمي! ها هي الدنيا دروس، تموت نفوس فتحيا نفوس. يا أمي! أخطأت ولا أبرئ نفسي، فيومي مثل أمسي، وغدي فيه بؤسي، زرت السجون، فوجدت المنون، ودارت بي الظنون، ألا ليتني تعلمت الفنون، فرسمت ما أراه.
أمي! جاءنا جائحة، لها بكل بلد نائحة، لا أعلم أفقيرة أم غنية لكنها سائحة! تجوب الأرض، فتبقي الناس بمنازلهم فرضا.
خاطبها خاسر ومعشوقها فان، والناجي منها مولود. تلقي بالمتجاهلين للوقاية منها صرعى، وسرعان ما أجساد المكذبين بها على الأسرة بيضاء تُلقى، حتى أصبحت المستشفيات بهم ملآ، فينادي يا أمي المخلص كفى كفى. نسيت يا أمي أن أقول: لقد ألقت بي على الرصيف دون مأوى، ففقدت كغيري مصدر رزقي، فما خشيته من الجوع! أتاني اليوم وأنا مفجوع.
أتعلمين يا أمي! إني سعيد بأن رمسي جاور رمسك، وسعيد بأن الأثرياء تناثروا على بنيتي، فلربما كنت سبب التعاسة، فشربت عائلتي من البؤس كأسه، أما اليوم فرأيتهم يستضافون بمجلس كثر حراسه، وتتلألأ الأضواء الساطعة من ألماسة.
أمي إياك أن تحزني، فالحياة دبت في العود اليابس، والروح التفاؤلية حلت في نفس اليائس، والخيول تكتنف جنازتي دون سائس، وموضع مقتلي يعج بالنفائس. فاهنئي فأهنأ في حياة دون نغائص أو نقائص.
Alahmadim2010@
هذه المدينة أخذت نصيبها من الأفلام الكوميدية والتراجيدية عبر الزمن كفيلم حسرة الطفل Heartbreak kid، ورواية كورت فونيجوت المناهضة للحرب، التي يُجسد فيها الخيال المطلق، لتتبع شخصية الجندي الأمريكي ومساعد القسيس - بيلي بيلجرام - منذ الصغر حتى يقع في قبضة الجندي الألماني في فيلم المسلخ الخامس Slaughterhouse five.
وحتى قصة الفيلم الذي لا يعكس اسمه محتواه Young adult، الشابة المنتجة المفكّرة، لا بل الكاتبة المطلقة والمدمنة التي تستيقظ في نهاية الفيلم من غفوتها، لتستكمل كتابة الفصل الأخير من روايتها. فلم تترك هذه الرواية الجمال يكتمل في أوصاف الفتاة. فتتجلى صورة مشرقة عن المدينة التي صورت شوارعها ومتاجرها بالفيلم، بل جعلت الإدمان سمة أثرت على ما سبقه من صفات لها.
وكأن هذه المدينة المضطربة في ذاكرة التراث الدرامي، سُخر لها لتكون صاخبة مشتعلة، ممتلئة شوارعها بأطياف الناس الغاضبة. إنذار الإعصار العاتي الذي يعصف بالمدن، فتتطاير منه الألواح الخشبية من أسطح المباني، ويقتلع الأشجار المعمرة فيسد بها طريق الأمل، حتى تبقى غارقة في الوحل لأيام. باتت المدن المضيئة في الظلام، وقد يتأخر عمال الصيانة لاستعادتها، لأن الريح قاسية، والإعصار مازال يجول من المحيط إلى المحيط، فعلّه يعشق السماء فيرتفع بزوابع الكورونا معه.
لم تأخذ الولاية شيئا من مسمى فيلم Beautiful girls الذي ركز على الطبقة البشرية نفسها التي انطلقت منها أغاني المغني الشهير شون كينغستون، فعند التدقيق في محتويات النصوص الغنائية، تلمح دون عناء الصبي المهمش الذي يحاول الانتحار، أو غير المبالي بالحياة، بسبب فشل علاقته مع الفتاة الجميلة.
عذرا فقد خرجت بكم ما يكفي عن هدف المقال، لم تكن تلك الكلمة التي أشعلت الشرارة في معظم الدول الديمقراطية «لا أستطيع التنفس» هي محور حديثي. فما زالت شرارتها مشتعلة، وصنبور وقودها مفتوحا، وإنما كلمة لم يدركها من التقط الجزء الأول من المقطع، ليشعل بتلك الكلمات الشرارة التي طالما انتظرت تلك اللحظة لانطلاقها.
تنفس جورج فلويد فنطق بأمي أمي مستنجدا بمن تنقذه إذا خاف، وتتألم إذا تألم، وتسهر إذا مسته الحمى. طالما ارتمى بحضنها الحنون، فغفى على همس ضربات قلبها الرقيق، لكن يخفت الصوت دون مجيب لذلك المكلوم.
الأم التي استنجد بها الرجل الأربعيني لم تكن حاضرة المشهد، بل غابت روحها، ودفن جسدها منذ 2018 بهيوستن التي تبعد ما يزيد على 1000 ميل عن مركز الصوت الذي يفقد الصدى. الأم التي تربي فتقول: أرق على أرق ومثلي يأرق / وجوى يزيد وعبرة تترقرق. إنّه صوت ينادي: وما صبابة مشتاق على أمل / من اللقاء كمشتاق بلا أمل.
عشقه لتلك الأم التي عاش معها بعد انفصالها عن والده، ونقش اسمها بجسده، والتي وصفها بمركز عالمه. صدق! فالأم هي العالم في الحضور والغياب. والسعادة والأنس، والفخر والاعتزاز، والرضا والقناعة، والإيثار والتضحية.
نداؤه: أمي أمي أغيثيني، فقد أحاط بي الألم، فلا عمل أجد، ولا معين من الناس يدي له أمد. نجوت من الفيروس، وفاضت روحي ضحية لهوى النفوس، أمي! ها هي الدنيا دروس، تموت نفوس فتحيا نفوس. يا أمي! أخطأت ولا أبرئ نفسي، فيومي مثل أمسي، وغدي فيه بؤسي، زرت السجون، فوجدت المنون، ودارت بي الظنون، ألا ليتني تعلمت الفنون، فرسمت ما أراه.
أمي! جاءنا جائحة، لها بكل بلد نائحة، لا أعلم أفقيرة أم غنية لكنها سائحة! تجوب الأرض، فتبقي الناس بمنازلهم فرضا.
خاطبها خاسر ومعشوقها فان، والناجي منها مولود. تلقي بالمتجاهلين للوقاية منها صرعى، وسرعان ما أجساد المكذبين بها على الأسرة بيضاء تُلقى، حتى أصبحت المستشفيات بهم ملآ، فينادي يا أمي المخلص كفى كفى. نسيت يا أمي أن أقول: لقد ألقت بي على الرصيف دون مأوى، ففقدت كغيري مصدر رزقي، فما خشيته من الجوع! أتاني اليوم وأنا مفجوع.
أتعلمين يا أمي! إني سعيد بأن رمسي جاور رمسك، وسعيد بأن الأثرياء تناثروا على بنيتي، فلربما كنت سبب التعاسة، فشربت عائلتي من البؤس كأسه، أما اليوم فرأيتهم يستضافون بمجلس كثر حراسه، وتتلألأ الأضواء الساطعة من ألماسة.
أمي إياك أن تحزني، فالحياة دبت في العود اليابس، والروح التفاؤلية حلت في نفس اليائس، والخيول تكتنف جنازتي دون سائس، وموضع مقتلي يعج بالنفائس. فاهنئي فأهنأ في حياة دون نغائص أو نقائص.
Alahmadim2010@