الرأي

مثلث المشاريع.. التوطين والتمكين

محمد العطية
تتكون بيئة المشاريع في القطاع العام من ثلاثة كيانات رئيسية، هي: القطاع الحكومي ويسمى المالك (Owner)، والاستشاري (Consultant)، والمقاول المنفذ (Contractor). ويحكم العلاقة بينها الطبيعة التعاقدية التي بُنيت استنادا على أنظمة وتشريعات حكومية مثل نظام المنافسات والمشتريات الحكومية.

تبدأ دورة حياة المشروع في القطاع العام بتحديد الاحتياج، وتخصيص الميزانية، وإعداد خطة المشروع، وإعداد وثائق المنافسة وطرحها من قبل المالك، ويصاحب ذلك تعيين استشاري للمشروع من قبل المالك، وبعد تحليل العروض المتقدمة يجري اختيار العرض الفائز ومن ثم تعميد المقاول للتنفيذ.

هنا انتقلت مسؤولية المشروع إلى المقاول بإشراف الاستشاري، وعليه التنفيذ حسب خطة إدارة المشروع (Project Management) التي يديرها المالك بمساندة الاستشاري الذي يفترض أنه يمثل المالك، ومهما كانت القيمة المستثمرة في هذا المشروع التي قد تكون بالمليارات سوف يوظف كل من الاستشاري والمقاول العناصر المناسبة لتنفيذ خطة المشروع، والتي في الغالب يتحكم بها الطرفان من حيث جنسية العناصر والرواتب والمزايا المالية التي يحصل عليها كل عنصر مع عائلته مثل التأمين الطبي الشامل والسكن ووسيلة النقل وتذاكر السفر.

وبينما القوة النظامية والقرار الإداري بيد المالك الذي تقع عليه مسؤولية إدارة المشروع واعتماد المستخلصات ومراقبة الأداء، وهو تحت المساءلة عن أي قصور أو تجاوز في نطاق المشروع أو تكلفة المشروع أو وقت التسليم أو تعثر المشروع، نجد الرواتب والمزايا المالية العالية بيد الاستشاري والمقاول، حيث يتجاوز راتب عنصر الاستشاري والمقاول أضعاف راتب عنصر المالك الذي يتوازى معه في المؤهل والخبرة ناهيك عن المزايا الأخرى، وهذا التباين في المزايا المادية خلق بيئة عمل غير متجانسة وغير محفزة لمهندسي القطاع العام.

إن أحد مرتكزات رؤية المملكة (Vision 2030) التي نفخر بها هو تمكين أبناء الوطن، لقد أصبح لدينا جيل نفخر به من المهندسين خريجي أفضل جامعات العالم الذين يعملون في القطاع العام، وقد أتى اليوم الذي يجب أن نمكنهم فيه من المشاركة الفعلية في تنفيذ المشاريع الحكومية، والاحتكاك بالخبرات النوعية لنقل المعرفة والممارسة لكي يصبح لدينا فرق من الاستشاريين المؤهلين في إدارة المشاريع بجميع أنواعها.

وفي الوقت الذي تعمل فيه هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية على رفع نسبة المحتوى المحلي في العقود، والتي تشمل العناصر الوطنية المشاركة في تنفيذ المشاريع من جانب القطاع الخاص؛ يبقى منسوبو القطاع الحكومي من مهندسي المشاريع خارج المعادلة!

إن أفضل الحلول المستدامة هو أن يصبح المالك هو الاستشاري، ويتطلب ذلك إجراء تغيير تحويلي وإعادة هيكلة إدارات المشاريع في القطاع العام بطريقة هيكلية احترافية موجهة لإدارة المشاريع، وتوطين عقدي التصميم والإشراف الهندسي الاستشاري من خلال مشروع منفصل لنقل الخبرة والمعرفة لإدارات المشاريع في القطاع العام.

وريثما تتحقق الحلول المستدامة فإن أحد أهم المحفزات للمحافظة على المهندس في القطاع العام، ونقل الخبرة والمعرفة إليه هو أن يكون جزءا من فريق العمل الذي ينفذ المشروع ويتمتع بمزايا فريق المشروع التي يتمتع بها عناصر الاستشاري للمشروع نفسه، وبهذا نستطيع أن نُكون بيئة عمل جاذبة لتوطين خبرات فعلية مؤهلة ومميزة في القطاع العام.

ولتحقيق ذلك، على الجهات التشريعية إيجاد صيغة نظامية تسمح بدمج مهندسي القطاع العام ضمن بيئة المشروع مع حفظ حقوقهم الوظيفية، ومثال على ذلك أن يكافأ المهندسون الذين يعملون في القطاع العام ويشاركوا ضمن فريق المشروع حسب خبراتهم ومؤهلاتهم بنسب تتراوح ما بين 25% - 100 % من رواتبهم طيلة مدة المشروع وعلى نفقة المشروع، وبعد انتهاء المشروع يعودون إلى موقعهم الوظيفية السابقة، أو يلتحق المهندس بمشروع جديد آخر، وهنا نكون حققنا الممارسة الفعلية للمهندس، بدلا من الانعزال عن بيئة المشروع الفعلية التي ينفرد بها الاستشاري، وحققنا كذلك توازن المدفوعات بين طرفين يعملان في المشروع نفسه.

وحتى لا يكون هنالك تضارب في المصالح لا بد أن يُشرع نظام المنافسات والمشتريات الحكومية في بنوده كيفية دمج عناصر المالك مع الاستشاري وكيفية تضمين ذلك في كراسة الشروط والمواصفات الفنية للمشروع حسب معايير تأهيل معتبرة، ويمكن دراسة هذه الفكرة بشكل مستقل ووضع ضوابط لتنفيذها بإشراف إحدى الهيئات المختصة.

في الحقيقة خلال عشرات السنين من تنفيذ المشاريع العملاقة في الوطن، كان اشتراط نقل الخبرة أحد متطلبات عقود المشاريع، ولكن ذلك لم يتحقق ولم نجد أن خبرة إدارة المشاريع تم توطينها بشكل مرضٍ، بسبب أن المتحكم في المشروع هو الاستشاري والمقاول وهما يفضلان أبناء جلدتهما والأجنبي بشكل عام، وكذلك بسبب غياب الآلية التنفيذية التشريعية التكاملية التي تسمح بدمج مهندسي القطاع العام في فريق عمل المشروع.

إن دمج مهندسي القطاع العام «مالك المشروع» نظاميا للعمل في بيئة المشروع جنبا إلى جنب مع الاستشاري سوف يحقق ما يلي:

1. العناصر الوطنية سوف تشارك فعليا في تنفيذ نشاطات المشروع.

2. الانتقال السلس للمشروع من مرحلة التشييد والبناء إلى مرحلة التشغيل والصيانة.

3. بيئة المشروع سوف تكون عادلة من الناحية المادية بين أفراد فريق المشروع.

4. تحفيز مهندسي القطاع العام للعمل باحترافية لتحقيق نجاح المشروع.

5. المشاركة الفعلية لعناصر المالك في التنفيذ سوف تساعد على مواجهة المشاكل والعوائق وحلها مع الأطراف الأخرى.

6. سوف يتحقق التدريب على رأس العمل لمنسوبي القطاع العام في مراحل دورة حياة المشروع.

7. مشاركة عناصر المالك سوف تسهل من عملية استلام الأعمال المنجزة.

8. مشاركة عناصر المالك واكتسابهم المعرفة سوف تمكنهم من تشغيل وصيانة هذه المشاريع على المدى الطويل.

9. عندما تصبح العناصر الوطنية في مستوى الاستشاري من حيث الخبرة والمعرفة التراكمية فإننا نستطيع الاستغناء (جزئيا أو كليا) عن عقد الاستشاري مستقبلا، وبالتالي تصبح إدارة المشاريع في القطاع العام استشارية بنفسها.

خلاصة القول: إن الاستثمار الحقيقي في مهندسي القطاع العام يتحقق بدمجهم نظاميا للعمل في بيئة المشروع لكي تنتقل لهم الخبرة والمعرفة والممارسة ليقوموا بدور الاستشاري مستقبلا، ونستغني عن العقود الاستشارية الهندسية.

@mattiah8