الرأي

قرون استشعار المستقبل

فهد عبدالله
ماذا لو كان هناك أداة شبيهة بالمنظار الالكتروني المستخدم في عالم الطب والجراحة نستطيع من خلالها معرفة الأدواء التي تصيب المجتمعات وتطبيبها بشكل دقيق، أو كان هناك قرون استشعار نستطيع من خلالها اكتشاف المستقبل وتمييز إرهاصاته وتجويد التوقعات بناء على مدخلات الواقع، وتصبح هذه الأداة هي المعول الحقيقي في بناء الشكل الحضاري للدولة والإنسان.

كان في القدم عند مواجهة معضلة أو مشكلة عويصة يذهب الناس لصاحب الرأي أو المتخصص أو من لديه شيء من الحكمة ليتزودوا بالإرشادات اللازمة حتى يخرجوا من تلك المعضلة والمشكلة، ومع تقدم العلم والحضارة والتعقيد الذي يسود المعارف المركبة، أصبح الرأي الأحادي وكذلك القرار المتفرد ربما ضربا من ضروب المغامرة التي يكتنفها الغموض، خاصة عندما تكون المشكلة - أو القرار - ذات صبغة مجتمعية أو مؤسسية.

تكوين لجان متخصصة أو مراكز بحثية أو مراكز صناعة للقرار هي المنظار أو قرون الاستشعار التي يمكن من خلالها الوقوف على أرض صلبة في صياغة الرأي والقرار وصيانته. وجودة هذا المنظار أو قرن الاستشعار تعتمد بشكل كبير على كفاءة المتخصصين وأمانتهم، وكذلك المنهج العلمي في صناعة القرار من خلال تلك الكوادر، والتمايز هنا يحدث بين مؤسسة وأخرى بناء على التفاوت في معالم هذين الشرطين.

ضبط إيقاع الحراك التقدمي والرؤى المستقبلية لأي عمل مؤسسي في شتى أنواع القوالب لا يمكن له أن يعزف سيمفونية التسارع الحضاري إلا من خلال الشكل العلمي في صناعة الرؤى والقرارات، لأن اللجان العلمية أو المراكز البحثية أو مراكز صناعة القرار هي الجهات المؤهلة شكلا ومضمونا لحيازة الحكمة والمعلومة وسداد الرأي، فضلا عن الحالة التخصصية والشكل الجماعي والنهج العلمي الذي يحوي إجراءاتها ومخرجاتها.

أكاد أجزم أن الأعمال المؤسسية التي تتسم بالاحترافية، والتي يلمسها من كان داخل المؤسسة أو خارجها ستجد خلفها - لو بحثت قليلا - أن صياغة القرار تمر من خلال جسور التخصصية والجماعية والشكل العلمي، ولا تجد في أروقتها تصورات من هنا وهناك بأن هذا نوع من الترف العلمي.

وفقا لتقرير (Global Go To Think Tank Index Report-2019) الذي يقيم مراكز البحث العلمي في العالم أخذت الولايات المتحدة الأمريكية نصيب الأسد في أكثر الدول التي لديها مراكز بحث علمي بمقدار 1871 مركز بحث علمي، وتأتي بعدها الهند والصين بواقع 509 و507، وفي مدينة واشنطن وحدها يوجد 408 مراكز بحث علمي في صدارة المدن عالميا في هذا الجانب، بينما خلت تماما قائمة الدول الأكثر حيازة لمراكز البحث العلمي من أي دولة عربية.

في المملكة العربية السعودية توجد عشرة مراكز بحث علمية كما ذكر في التقرير، ولعل هذا الرقم يتضاعف من سنة إلى أخرى لتوهج الرغبة الجارفة في القرار السعودي من أجل التسارع الحضاري والوثبة العالية في منافسات ميدان البحث العلمي.

المراكز العلمية التي تهتم بتشخيص الواقع والفرص والتحديات والآمال المستقبلية والغوص بشكل دقيق ومنهجي في الأسباب الجذرية للآلام والمشاكل ووضع الترياق المناسب هي الطريق الأكثر حكمة، ومن خلالاها تكون القرارات والآراء أكثر تماسكا ونضجا.