الرأي

القيم المجتمعية بين الاحترام والتغيير

فهد القرشي
استرعى انتباه رواد منصات التواصل الاجتماعي عدد من المشاركات حول زيارة أحد الإعلاميين لديار إحدى القبائل، حيث أكرموا وفادته وعاملوه بحسب عاداتهم وتقاليدهم ونظرتهم للأسلوب الأمثل لمعاملة الضيف. وقد أصر أحد المستضيفين أن يشرفه الضيف في منزله، وحلف قائلا «عليّ الطلاق أنك لازم تطب بيتنا ونبغاك تنطح فالك»، لكن تلك العبارة لم ترق لهذا الإعلامي الذي أبدى امتعاضه الواضح من أسلوب ونوعية تلك الدعوة التي اعتبرها نوعا من «الاستبداد»، وإن كانت في ظاهرها مظهرا من مظاهر الكرم، كما عبر عن تحفظه على اختزال الكرم في خروف يُذبح ثم «تنتهي صلاحيته» على حد تعبيره.

هذا الموقف أثار ردود فعل بلغت أحيانا حد التشهير بل والهجوم العنيف، لأن كثيرين اعتبروه خروجا على المألوف الاجتماعي وتحديا للعادات والتقاليد والقواعد السلوكية المتوارثة التي يُلزم المجتمع أفراده باحترامها واتباعها وجعلها قاعدة لتصرفات الأفراد في المواقف المختلفة.

ولا شك أن المجتمع العربي الكبير يعتبر الكرم أحد مقوماته الأساسية التي طبيعة العلاقات بين أفراده بكل أبعادها الاجتماعية وجذورها التاريخية، ورفض الكرم كمبدأ فكري وسلوك شائع قد يُفسر على أنه خروج فردي على روح القيم المجتمعية ومحاولة لنشر أفكار وإحداث سلوكيات مضادة لما تعارف عليه المجتمع عبر الأجيال.

وهنا تبرز أهمية تفهم العلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع، حيث تشكل ثنائية الفرد/الجماعة علاقة لا تكاد تثبت على حال واحدة لأنها تتسم بالجدل ومحاولة بعض الأفراد الخروج على روح بعض القيم المجتمعية، لأن الذات الفردية تنظر إلى تلك القيم نظرة سلبية تعتبرها عدوانا على حقوقها وانتقاصا من وجودها وتهديدا لاستقلاليتها، فيحصل من بعض الأفراد نوع من «التمرد» الذي يجابهه المجتمع بقسوة.

لكن ماذا يحدث إذا كانت بعض مكونات الموروث الاجتماعي وبعض جوانب التراث الثقافي تتصادم مع قناعات وتوجهات بعض أفراد المجتمع؟ هل من المستساغ أن يصرح الفرد بمعارضته للعادات والتقاليد؟ كيف يستطيع الفرد إحداث بعض التغيير الذي يراه إيجابيا ولكن الثقافة السائدة لا تعترف به بل تعتبر ذلك التغيير خروجا على إطار المضامين الثقافية السائدة وتحديا لمنظومة القيم المتوارثة؟

من الطبيعي أن الفرد لا يستطيع مجابهة المجتمع بكل ذلك الإرث التراكمي من معارف ومعتقدات وعادات وتقاليد، ولعل من المناسب هنا إيراد قصة تراجع النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن فكرة إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم - رغم اقتناعه بصوابها، وذلك مراعاة لحال أهل مكة حديثي الإسلام في ذلك الوقت، حيث خشي صلى الله عليه وسلم نفور الناس من الدين، فقرر التخلي عن تلك الفكرة وإبقاء بناء الكعبة على ما كان حتى لا تهتز ثقتهم في الإسلام وما نشؤوا عليه من رؤية البيت العتيق على ذلك الحال، فنشأت بذلك قاعدة تقديم المصالح خشية وقوع بعض المفاسد.

ختاما، لا بد من التأكيد على أهمية الذكاء الاجتماعي وضرورة عدم التصادم مع قيم المجتمع، واختيار الأسلوب الأمثل لطرح الأفكار الجديدة، وبيان طبيعتها وتسويق أهميتها وكيف أن هذه الأفكار الجديدة لا تنطلق من نبذ الموروث الاجتماعي والتراث الثقافي بالكلية، بل قد تعالج بعضا من جوانب الخلل في الثقافة المجتمعية السائدة، وربما تسهم في تحسين صياغة الشخصية العامة وبلورة الهوية، مما يؤدي إلى تصاعد في وتيرة التطور الثقافي دون المساس بالجوانب الأساسية للبنية الحضارية وقيم الانتماء للثقافة السائدة.