الرأي

عاصم حمدان ذاكرة الحجاز

مرزوق بن تنباك
ورحل ذاكرة الحجاز فإنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا نقول عن الأستاذ الدكتور عاصم حمدان غفر الله له؟ وكيف نصفه بما يستحق وقد رحل عن دنيانا طيب الذكر ناصح السريرة؟ عالم كرس علمه فيما ينفع الناس وفي خدمة المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكأن الله اختاره برعاية منه ووهبه حبهما والعناية بتاريخهما الحديث وإبراز معالمهما في الحاضر، ابن طيبة الطيبة أحبها وأعطاه الله موهبة وعلما يخدم تراثها وتاريخها وحاضرها، حتى لكأنه هو وحده الذي يعرفها دون غيره حتى ممن عاش فيها من أهلها.

إذا كتب عاصم حمدان عن أحيائها فكأن كل من قرأ ما كتب يعرفها أول مرة، وإن كان من أهلها والمقيمين فيها، يكتب ما نعرفه جميعا عنها ولكنه يضعنا أمامه بلغة وصفة كأننا لا نعرفها إلا على لسانه وقلمه، امتزجت روحه الطيبة بعلمه الغزير وبحبه للناس ولطفه معهم صغيرهم وكبيرهم، فكتب عن رجال المدينة المنورة وأحسن فيما كتب، ووصف علماءها وأحسن الوصف، وقال عن أهلها والمقيمين فيها وما أجمل ما قال، ومد نظره إلى محيطها الكبير الذي حولها فأظهره بشفافية وصدق ومحبة، فلا تجد فيما كتب غير السماحة التي تفيض من روحه على قلمه فيرسم سماحة الروح على ما يعبر عنه وعما يصف.

خص آثار المدينة المنورة وتاريخها بعناية ورعاية خاصتين واهتم بها أيما اهتمام، أسأل الله أن يرزقه شفاعة ساكنها عليه الصلاة والسلام. وعن مكة المكرمة كتب مثلما كتب عن المدينة المنورة، حيث أقام فيها أربع سنوات هي مرحلة الدراسة الجامعية وكأنه أقام فيها عمره، فوصف أحياء مكة ووصف علماءها وقراءها ورجالها، وفي كل ما كتب تلمس فيه روح المحبة والصدق وقول الحق الذي يملأ القلب ويشرح الصدر للقبول والمعرفة وكأنه لم يكتب أحد غيره عنها في هذا الزمن.

لم تكن سماحة الأستاذ الدكتور عاصم حمدان وفيض علمه وفضله وقفا على المدينتين المقدستين وتاريخهما وأهلهما، لكن كل من عرفهم من أبناء الوطن والمقيمين فيه ينالهم فيض علمه ويحتويهم رفقه وتسمع منه ما تحب أن تسمع عن الناس كافة، فهو عفيف اللسان بعيد عن اللغو الذي لا ينفع.

رغم أننا أبناء بالمدينة المنورة وعشنا سويا فيها إلا أننا التقينا أول مرة بعيدا عنها في بريطانيا، وعرفته حق المعرفة هناك وترسخت العلاقات بيننا مع عدد كبير من الزملاء، كان عاصم حمدان الشاب النموذج المجد في دراسته وصداقته وألفته لكل من عرفه ممن تجمعه بهم الدراسة الجامعية والاجتماعات والمناسبات العامة، فلا تسمع عن عاصم حمدان إلا الخير ولا تسمع منه إلا ما تحب، ومع ذلك كان تحصيله العلمي متميزا.

وكانت معارفه العامة وهضمه للثقافة الغربية متميزة أيضا، يظهر ذلك فيما كان يكتبه في الصحافة المحلية بعد عودته عندما يكون الحديث عن بريطانيا وأحزابها ورجال السياسة فيها، والحديث عن أعراف المجتمع البريطاني وتقاليده العريقة، كما كتب عن علمائها في تخصصه وما هو بعيد عن التخصص كالحديث عن السياسة وصراع الأحزاب، وذلك هو المثقف العالم الذي لا يحصر جهده في دائرة ضيقة من متطلبات التخصص الدقيق، بل تتوسع معارفه ويفيد من يقرأ له، لقيته قبل أشهر في النادي الأدبي في جدة ضمني بحب، كنت أعرفه كلما التقينا ولم أقدر أن تكون تلك اللحظات هي آخر لقاء، رحمك الله أبا أحمد وغفر لك وأنزلك الفردوس الأعلى من الجنة.

بقي رجاء أتوجه به إلى مركز أبحاث المدينة المنورة والقائمين عليه من الأصدقاء أن يعتنوا بتراثه الذي تركه وراءه، وأن يهتموا بجمعه والعناية به والمسارعة بنشره، فكل ما ترك هو تراث للمدينة المنورة وعنها وعن حاضرها الذي قد لا يطلع عليه الناس، إلا أن يكون للمركز مبادرة سريعة ناجزة حتى لا ينسى.

Mtenback@