الرأي

يوم طفولة حائرة

شاهر النهاري
لم تكن إشراقة ذلك اليوم خالية من الدهشة والخوف على اتساع عينيه، وعلى قرع نبضه المتعاظم، فكلما حوله يجر جحافل مشاعره في اتجاه مختلف. نظر لخياله على صفيحة معدنية بجواره، فيا للعجب، لقد غارت الدموع في مشدوه عينيه، وأبت النزول على ناحل خده؛ وارتفع حاجباه حتى تقلصت مساحة جبهته، التي ارتسمت عليها ثلاثة منحنيات شبيهة بتجاعيد جبهة جدة الختيار، والتي كان يعتقد في صغره أنها من أسباب ضلوع الجد بمعرفة الحكايات العتيقة، وطيبة المعشر عندما يحتضنه ليحكي له حكاية ينسج حروفها من خيوط خيال. هذا الصباح غريب في كل شيء، فهذا البرد القارس يدخل من شقوق الخيمة المتداعية للانكماش على جسده الصغير، فهي ليست خيمة كبيرة كما درس عنها في مدرسته، وليس لها عمود ضخم في منتصفها، وليست إلا مثل لعبة جيرانهم، التي كانوا يلعبون تحتها لعبة (الغميضة). ثيابه لا تزال مبتلة ببعض ما علق بها من رذاذ المطر الكاحل أثناء مسيره الليلي للوصول إلى هذا الملجأ الآمن من صواعق وحرائق السماء، ومن زلزلة وقوع البراميل فوق المباني المحيطة ببيتهم، الذي لم يتبق منه إلا نافذة صغيرة استوت فوق صفوف من الجدران المتراكبة على وجه الأرض. هو في هذه الخيمة يسكن بجوار أشخاص لا يعرفهم، بعد أن عرف منذ أيام بأنه وحيد بعيد عن أفراد أسرته، وعندما سأل عنهم سمع إجابات مخيفة متناقضة مختلفة؛ فهل فعلا ظلوا تحت الأنقاض، أم أن أحدهم أو بعضهم يدور بين التلال والأودية باحثا عنه، أو أنه لن يراهم ثانية؟. المسؤول عن المخيم ألصق على صدره بطاقة تحمل أرقاما ورموزا، هي هويته الجديدة. ينادون برقمه، ويقدمون له بعض الطعام البارد، والذي لا يعرف ما هي مكوناته، ولا يشعر حتى بطعمه في فمه، رغم أن بقية من يجلسون حوله في الخيمة ينظرون إلى لقمته بشهية، وكم من مرة تركها لواحد منهم. لقد نظر البارحة لإحدى الفتيات اللاتي يسكن معه في نفس الخيمة، وشعر نحوها بشعور غريب، فهي تشبه أخته الكبرى، يا الله كم كان يود أن يقترب منها، وينعم بدفء حضنها، قبل أن ينادوا على رقمها، وهي منهارة بالبكاء، وتمسح دمعتها بطرف شالها، وتخرج من باب الخيمة منتفضة كالحمامة، وهم يقنعونها بأن زواجها من المطوع الغني سيكون ملاذا لها من سلسلة تشرد ستطول، وأن الشيخ لن يمسها قبل عدة سنوات!. تقترب منه امرأة شاردة الذهن، منفوشة الشعر، وهي تحاول تلمس قسمات وجهه، بين دموعها، وظلت تسأله عن ابنها المفقود، وهو يحاول التملص من بين يديها، وهي تصر على قوة الشبه. الحال في هذا الملجأ مزر، والهروب منه لا يبشر بالأفضل، والصبر على أنواع الأذية حل وإن لم يكن بمستطاع. الليل قادم، والظلام سيد الموقف، والزحام يخلق قوانين لا ترحم الصغير، والشكوى قد تنقل الشاكي إلى ضيق أعظم، وتحديات نفسية أردى، وشعور بالمهانة الجسدية، والروحية. البعض في هذا الملجأ تعود الحال لطول فترة بقائه، والبعض غامر بالرحيل، وهو يعلم أن الموت مختبئ في كل الزوايا، وأن الموج الطاغي، قد يكون أحن صدرا من حياة ليست حياة. shaher.a@makkahnp.com