اختزال الحجاز في (تاريخ الحارة)!
الخميس / 25 / رمضان / 1437 هـ - 00:00 - الخميس 30 يونيو 2016 00:00
حين قال القصيبي ـ يرحمه الله ـ «نعم نحن الحجاز ونحن نجد» كان يعبر بالجزء عن الكل، وربما يوحي إلى أصالة تماسكنا وتوحدنا منذ كان اسم المملكة (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها)، ولا تثريب عليه بلاغيا في التعبير بهذين الإقليمين عن الوطن بأكمله، فهو لا يعدو تعبيرا يعيدنا إلى أساس تاريخي، لكن القضية حين يتجاوز الأمر التعبير، ويقوم أحدهم عمليا بصبغ الكل بالجزء، أظن أن الأمور ستختلف هنا، وتصبح خارج المألوف، بل ستسلك مسالك ليست حميدة أمام حصافة التاريخ، لأن الصابغ سيمتطي جياد الإقصائية وتهميش الشركاء، وهذه الجياد (لا يمدحون) عدْوها؛ لأنها تعدو باثنتين فقط!
المتابع للمشهد السعودي دراميا وإعلاميا وعبر مواقع (التفاصل الاجتماعي) كما يسميها الأستاذ (السحيمي) تلفته مفردة (الحجاز) وكثرة تكرارها، لكن اللافت أكثر أن الحجاز على اتساعه الكبير حسب الأديب عبدالله عبدالجبار ـ يرحمه الله ـ الذي يحدده شمالا بتبوك وجنوبا بالقنفذة وشرقا بالباحة والطائف، وما وقع بينها، نجده اليوم ضاق حتى أصبح لا يعدو (صبغة حارة) في مكة القديمة وجدة القديمة، فمن المؤسف جدا اختزال الحجاز بكل تنوعه وثرائه في (تاريخ الحارة)، والتركيز الممل على ذلك التاريخ باعتباره التاريخ الوحيد للحجاز، واجتراره صباح مساء في أطعمة ولبس وفلكلور وعادات أهل الحارة في جدة ومكة.
لا بأس أن تبرز تاريخ المكان وتتذكر لحظاته وجمالياته وعِبره، أما أن يظل هو التاريخ الوحيد (المجتر) عبر الصحف والإذاعة والتلفزيون والمسلسلات والثقافة العامة، وتناسي كل ما عداه في منطقة الحجاز، وإصرار الإعلام غير المبرر على ذلك، إلى درجة اعتبار لهجة (الزحير) الشهيرة (التي تخرج بمشقة من أقصى الحلق) لهجة الحجاز كله، ولبس (الغبانة والصديري) لبس الحجاز كله، وطعام أهل الحارة طعام الحجاز كله، و(رواشين) بيوتهم علامة المعمار اليتيمة للحجاز كله، فماذا يحدث يا قوم؟
ما يحدث إقصائية واضحة، وتعنصر لا غبار عليه، لكنه بثوب مختلف، لأنه يطل من نافذة التهميش التي تلغي الآخر (الشريك الزمكاني)، فيجتهد العنصري محافظا على تصدر المشهد وتلوينه بألوانه هو فقط، وهذا كله ضيق أفق فرغ (الحجاز) من دلالاتها الكثيرة، وربما كان ردة فعل لأمر ما، أو حبا في الحجاز، لكنه لم يكن موفقا ولا نزيها.
صارت كلمة الحجاز (مفرغة) من تنوعها وثرائها، فغاب المكون القبلي والقروي الذي يشكل غالبية عظمى، وغيابه يتمظهر في غياب (الثقافة واللهجات والعادات والفلكلور والمعمار) وغيرها من الخصائص التي صارت اليوم موضع استغراب ودهشة حين يطلع عليها البعيد عن المشهد، لأن (الحجاز) طبعت في مخيلته بدلالاتها المختزلة، التي كرسها الإعلام، بفعل السيطرة عليه قديما وإلى عهد قريب من الفئة التي تعاني حساسية ضد المناطق المجاورة، أو ضد مكون بعينه، لكننا اليوم نتفاءل أن الوعي الحضاري والثقافي لمجتمعنا الواحد يستطيع تجاوزها باقتدار وحكمة.
أؤمن تماما بانصهارنا جميعا بكل مكوناتنا في الوطن، وأن مجتمعنا يتجاوز الآن هذه النظرات الضيقة، لكن ما دفعني إلى كتابة هذه (التذكرة) لا يتجاوز التنبيه إلى أهمية اكتناز الحجاز بدلالتها العريضة، الثرية بأبعادها الجغرافية والتاريخية والديموجرافية، فالاختزال ـ أيا كان مبرره ـ وظرفه التاريخي، يظل خللا يستدعي المعالجة، ومعالجة هذا الأمر تحديدا مهمة المؤرخين والإعلاميين بجميع فئاتهم، وكذلك المثقفين والباحثين، خصوصا في اللهجات والفلكلور والمعمار والزراعة وغيرها من مجالات البحث الخصبة. ولا يخفى عليكم أن التنوع العريض في الحجاز أو أي إقليم من أقاليم المملكة يعد ثروة وطنية يجب ألا تتساهل وزارة الثقافة والإعلام خاصة في التوجيه إلى استيعاب جميع مقتضياتها دون تمييز ولا مواربة.
alhelali.a@makkahnp.com