يلاحظ هذه الأيام أن هناك كثيرا من المحللين يتحدثون عما كشفه فايروس كورونا من ضعف بشري، وتوحش مادي، أو فساد إداري واقتصادي، فأهل الاقتصاد على سبيل المثال يتحدثون عن الآثار الكارثية التي أحدثها انتشار وتفشي هذا الفايروس، ويرون من ناحية اقتصادية بحتة أن العالم ما بعد فايروس كورونا لن يكون كما كان عليه قبله! ولهم في ذلك أدلتهم وشواهدهم، ولست هنا بصدد الحديث عن هذا الموضوع أو تناوله بالنقد والتحليل، ولكن من يتحدث عن الفساد الإداري المتكشف له كأثر مباشر من الآثار العديدة لانتشار الفايروس لا يقول إن الوضع سيكون مختلفا عما هو عليه في السابق، ولا أخفيكم أنني حاولت سريعا تلمس علة للمفارقة بين الحالتين، فلم أجد، والحمد لله أنني حفظت وقتي وأوقاتكم الثمينة من الضياع!

وهذا ببساطة لأن الفساد في مجمله لا يمكن تجزئته أو تعريفه حسب الحالة المزاجية والمصلحة الشخصية لهذه الجهة أو تلك، الفساد ينظر إليه ككتلة واحدة، قليله وكثيره، ومهما تعددت أشكاله وتنوعت أغراضه يظل فسادا، وسواء ظهر في الاقتصاد أو في الإدارة الأكاديمية أو في غيرهما، وسواء انكشف حاله وانفضح أمره بطرق رسمية وقانونية أو هكذا جاء مصادفة أو على هامش حدث طبيعي! لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُنظر للفساد في مكان ما على أنه فساد محض، بينما في مكان آخر يُنظر إليه على أنه بطولة وإنجاز!

منذ أن عُلقت الدراسة، وإلى ما قبل يومين ونحن لا نسمع من مراكز الأبحاث المتخصصة في الجامعات المحلية أي مشاركة علمية حقيقية، لها علاقة بما يمكن أن يسهم في كبح وباء كورونا، صحيح أنه قد خرجت بعض مقاطع «الفيديو» على وسائل التواصل الاجتماعي، يزعم أصحابها أنهم على وشك اكتشاف اللقاح، وبعض القنوات الفضائية أظهرت لقاءات مع مبتعثين ادعوا أنهم ضمن فرق بحث عالمية، وأصبحوا معها قاب قوسين أو أدنى من الحصول على الاكتشاف الأعظم ضد كورونا!

وأنا في الواقع لست معترضا على مثل هذه المقاطع أو على الأخبار المشجعة التي تدعو للتفاؤل، بغض النظر عن صحتها ومدى مصداقيتها، وذلك يرجع لسببين؛ الأول أنها شائعات وأشبه ما تكون بفقاعات مائية ما تلبث أن تتلاشى وتنتهي سريعا، والثاني أنها تكشف واقعا خاويا، امتلأ بها وبغيرها من التوافه، لخلوه من المنجزات الحقيقية، وبات مكشوفا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!

وعلى أن المسؤولين في جامعاتنا ما انفكوا حديثا عن إنجازاتهم ونجاحاتهم في زمن ما قبل وباء كورونا، إلا أنهم في حضوره كانوا أكبر الغائبين وأكثرهم انزواء وابتعادا عن استحضار واستدعاء منجزاتهم السابقة، وسبحان الله العظيم! كأنه جاءهم ما يشبه البكم والصمم، حتى ظننا أنهم «كأن لم يغنوا فيها»، وكأنهم ما كانوا يتفاخرون بأنهم الأوائل إقليميا وعربيا حسب تصنيفي «شنغهاي» و «كيو إس»، وكأنه ما كان من بين باحثيهم وعلمائهم الأفذاذ من بلغ نشره العلمي في العام الواحد أكثر من 300 ورقة علمية! وكأنهم ما كانوا يصرفون لأنفسهم بدلات تميّز علمي تصل إلى 100%! وربما ما زالت تصرف لهم إلى يومنا هذا، فلا مراكزهم الأولى التي زعموها أغنت عنهم طائلة النقد وتدفق التساؤلات واللوم المباشر، ولا نحن وجدنا لجامعاتنا ومراكزها البحثية مكانة عالمية أو فائدة محلية!

قد يقول قائل: لا تكلف علماءنا ما ليس في مقدورهم المادي أو فوق طاقاتهم الذهنية، فهذه أدواتنا وهذا هو حالنا، وهذا القول خاطئ ومردود عليه، ولا حاجة لي أو لكم في إعادة الرد عليه أو التوقف عنده.

لكنني أنظر إلى المسألة من منظور آخر، فما أراه أنا لا يتعلق بالجانب العلمي الصرف بقدر ما هو مرتبط بالجانب الإداري: إن فشل المراكز العلمية والجامعات في مجاراة المراكز البحثية العالمية ليس سببه اختلاف القدرات الذهنية والطاقات الإبداعية، لا أبدا، ولكنه فشل في الإدارات الأكاديمية في جامعاتنا، فشل في إدارة المراكز البحثية نفسها، وفي توزيع الدعم المالي الحكومي عليها، وصرفه في طرقه الصحيحة بشكل فعال ومثمر.

الوضع الأكاديمي ما بعد كورونا يجب أن يكون مختلفا بالكلية عما كان عليه قبلها، هذا إن كنا نريد لعلومنا وأبحاثنا وحضارتنا موضعا حقيقيا بين علوم وأبحاث وحضارات الأمم، وإن كنا نريد مكانا لبلادنا تستحقه بالقول والفعل، لا بصرف الأموال وقت الرخاء، هكذا على التصنيفات الوهمية، والنجاحات الشخصية، بل يجب أن نعنى بالإدارة الأكاديمية ونعطيها الأولوية في الدعم والمحاسبة، وعلينا أن نضاعف الدعم الحكومي أضعاف ما هو عليه اليوم، ونوجهه توجيها أمثل، وبطرق نعلم مسبقا مردودها العلمي.

صدقوني إن غادرنا هذا الوباء ونحن لم نغير أدواتنا في الإدارات الجامعية فإننا سنكتشف - مع مرور الوقت - في إداراتنا الأكاديمية وما يرشح عنها ما هو أشرس وبائية وأكثر فتكا وأشد قتلا من وباء كورونا، والله المستعان وهو خير حافظ!

drbmaz@