الرأي

متلازمة الملل الكوروني

ياسر عمر سندي
من طبيعة البشر أن يستمر التواصل البيني، والتبادل المادي والمعنوي، وإذا فقد الإنسان ذلك الشعور يعتريه الملل والسأم، وتخالجه نوبة من الزهق والحنق، وإذا ما استمر في روتين يومي، سيجد نفسه في حالة من الجمود وانعدام التأقلم والاتزان، ويصاب بخلل في طبيعته المفطور عليها؛ ولانفراج تلك الضيقة وذلك الانغلاق، يتحتم على الفرد تلمس وتحسس المنافذ المؤدية إلى راحته النفسية.

ولبدء عملية التحرر والانطلاق يستوجب الأمر اتباع استراتيجية الاستبصار النفسي والتنبؤ الذاتي، ومصطلح الاستبصار أعني به قيام الإنسان بالإدراك والانتباه والفهم بحالته وقدارته، والتعمق في مشاعره الخاصة، والربط بين ذلك كله، لطرح أفكار جديدة تساعده في إعلاء وعيه بما يحدث من حوله، وأقصد بكلمة الوعي أن يكون لديه جهازه الاستشعاري الخاص، الذي يسلطه على جميع الاتجاهات، ليضع نفسه والآخرين والمحيط المدرك من حوله، في حالة استعداد تام لأي طارئ يصادفه، حتى يتأقلم معه ويتجاوزه، وهذا بالطبع لا يتحقق إلا إذا بدأ الإنسان باسترجاع واستعادة ذاكرته البعيدة والقريبة، ليستطيع التعلم من خبراته، ويرصد مدى الاستفادة منها وتطويعها لصالحه.

ما أرمي إليه من هذه الديباجة السابقة، هي حالة القلق السائدة التي نعايشها في الفترة الراهنة من أزمة كورونا العالمية، والتي شغلت الشأن المحلي والدولي بتبعاتها، ومن هذه التبعات الرسالة المنقولة للجميع «ابق في بيتك»، والتي أحدثت ردات فعل أثرت في سلوكيات البعض قولا وفعلا وإيماءا، ومثال على ذلك التأفف وعدم الرضا جراء البقاء في البيت بكلمات: أنا مليت، أنا زهقت، أنا طفشت، أو إظهار ذلك بإغلاق الغرف والركون إلى العزلة والانفراد، أو بالتصرفات الخاطئة من البعض بانعكاس لغة الجسد لديهم بمؤشرات الامتعاض الشكلي للوجه كتقطيب الجبين، وتضييق بؤبؤ العينين، وتلك السلوكيات أطلق عليها «متلازمة الملل الكوروني»، والتي لازمت البعض نتيجة بقائهم في بيوتهم جراء انتشار فايروس كورونا.

وإذا ما تحدثت من الجانب النفسي عن تلك المتلازمة، أرى أنها تحتاج إلى العلاج الجذري لإعادة توجيه الأفكار الصحيحة، وكما أسلفت فإن الاستبصار يرشدنا إلى تعلم ما هو الجديد والمفيد، للانتقال من حال إلى حال، فالأفكار تولد من رحم المعاناة. وغالبا من يتضجر ويتذمر من حالة الملل، أولئك الذين لا يجدون في بيوتهم المتعة، وينظرون إلى منازلهم كأنها فنادق أو شقق مفروشة، يلجؤون إليها لمجرد النوم والاستحمام وتبديل الملابس، وتناول الطعام والراحة المؤقتة فقط، ثم يستعدون بعدها للخروج والاستمتاع خارج البيت.

ومن وجهة نظري السلوكية أرى أن هنالك سببين للشعور بالملل المنزلي المتواصل، خاصة في هذه الآونة الحرجة، أولا التنشئة والتربية الوالدية، التي نقلت الصورة الذهنية المشوهة وألصقتها بأبنائهم وبناتهم، بأن إشباع المتعة لا يتم إلا بالخروج وتكراره وتنويعه، أي إن الخروج الدائم ولأي جهة كانت أو مكان، سواء للمقاهي أو الأسواق أو لمقابلة الأصدقاء أو الجلوس في المتنزهات؛ هي التي تخلق الجو في تغيير الحالة المزاجية والنفسية فقط، أما السبب الثاني فيكمن في مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، والدعايات المصاحبة لذلك، والذين يحفزون بدورهم للخروج وتجربة كل ما هو جديد في المطاعم، وتصوير تلك المأكولات والمشروبات للعامة، والتسوق والشراء وغيرها من مغريات الترك المنزلي. وهذان السببان أجدهما الأساس في نشوء فكرة انعدام الاستمتاع المنزلي.

وفي هذا الظرف الكوروني الطارئ، الذي لا يقبل إلا العقلانية والمنطق، وتوجيه السؤال الذاتي: هل سأبقى في بيتي أم أخسر حياتي؟ لنتعلم من وضعنا الحالي درسا عظيما: كيف أن العالم بأسره، وبلغاته المختلفة ولهجاته المتعددة، يستنفر طاقاته ويستجدي شعوبه بأن يلزموا بيوتهم؟

وهذه رسالة للجيل الحالي والأجيال المتلاحقة، بأن يسجلوا هذا الموقف في ذاكرتهم كخبرات أجبرت الجميع على تغيير الصورة الذهنية السابقة، وإحلالها بصورة جديدة تحفز الجميع على الاستمتاع بالإشباع المنزلي والتسلية، وصنع الأطعمة وتجاذب الأحاديث، والبقاء مع الأسرة مجتمعة، ليستبصروا بأن البيوت هي الملاجئ الآمنة، والنعمة العظيمة الكامنة التي تحتم علينا إعطاءها حقها الكافي والوافي لمعانقة جدرانها وغرفها وأثاثها ومقتنياتها، وهي فرصة لتتشكل الألفة المتبادلة المعنوية والمادية، بين البشر وبيوتهم للتخلص من متلازمة الملل المنزلي الدائم، والملل الكوروني المؤقت الذي يشعر به كثيرون حاليا.