الرأي

تباريح الاعتزال!

سنابل موقوتة

عبدالله المزهر
كنت أود الكتابة عن تجربتي العظيمة في البقاء في المنزل وعدم الخروج منه حتى للضرورة في الأيام القليلة الماضية، ثم أحدثكم عن شعوري الغريب وأنصحكم بضع نصائح، وأجعل من تجربتي مصدر إلهام لكم لتستطيعوا مجابهة وجع الحياة. ووجع الحياة هو أحد أهم أسباب الوفاة حسب تصريح محمود درويش غفر الله لنا وله «فإن أسباب الوفاة كثيرةٌ، من بينها وجع الحياة».

وأرجو ألا يفهم من المقدمة أعلاه أني لن أفعل، ولكن كل ما في الأمر أني لم أجرب شيئا جديدا، وأتت هذه الإجراءات موافقة بشكل لا يصدق لأسلوب حياتي، لأني أكره الخروج من المنزل حتى في أيام السعة والابتهاج، وآخر مرة ذهبت فيها للحلاق كانت أيام الحملة الفرنسية، ثم إني أكره المصافحة وأمقت المناسبات الاجتماعية والاجتماعات التي يحضرها أكثر من شخص. وحين أحصل على إجازة فإن الخيار الأول بالنسبة لي هو قضاؤها في المنزل، متنقلا بين الصالة والمطبخ وغرفتي المكتظة بالأشياء التي لا لزوم لها.

ربما يكون الأمر الوحيد الطارئ هو أني تعرفت على بعض الساكنين معي في نفس المنزل، والذين لم يكن هناك مناسبة للالتقاء بهم في الأيام السابقة لجائحة الكورونا. والحقيقة أنهم أناس طيبون ومرحون وسعدت كثيرا بالتعرف عليهم والجلوس معم، وأنوي بعد أن تنتهي هذه الأزمة بحول الله أن أعزز علاقتي بهم لتتجاوز رسائل الواتساب وتحويل الأموال إلى حساباتهم البنكية إلى أن تصبح علاقة صداقة حقيقية.

الأمر السيئ الوحيد في هذه العزلة هو أنني كنت في عزلتي الاختيارية أحب مشاهدة مباريات كرة القدم، لدرجة أني كنت أتابع مباريات لفرق لا أعرف أسماءها ولا في أي مكان يلعبون، ولا ما هي المنافسة التي يلعبونها، أما الآن فمما يؤسف له أن هذا الترف غير متاح في هذه العزلة الإجبارية.

وكرة القدم كما وصفها يورغن كلوب مدرب أكثر الفرق نحسا في مجرة درب التبانة هي «أهم الأشياء غير المهمة»، وفي العزلة يحتاج الإنسان إلى كثير من الأشياء غير المهمة.

الأمر الآخر الذي طرأ على أسلوب الحياة هو متابعة تعليم طلاب المراحل الدنيا، ولدي ثلاثة طلاب تحتاج متابعتهم وقتا أكثر من الوقت الذي كان يحتاجه هولاكو لمتابعة شؤون جيشه الذي سحق نصف البشرية. ومع أني دوري في هذه المتابعة هو دور المدير - أي الذي لا يفعل أي شيء، إلا أنه أمر مرهق وممل، ولعلها مناسبة للاعتذار لكل المعلمين والمعلمات الذين ربما قللت يوما ما من عملهم وسخرت من كثرة إجازاتهم. فقد اكتشفت أني أحتاج بعد هذين الأسبوعين إلى إجازة لا تقل عن سنتين لتعود خلايا عقلي إلى الوضع الذي كانت عليه قبل هذه الأزمة. وأظنكم تعلمون أني أعني أن تعود إلى الراحة وعدم العمل.

وعلى أي حال..

قد يمتعض بعضنا، ويكره أن تقل خياراته في الحياة، لكن الأمر يحتاج شيئا من التضحية، والذين يتغلبون على غريزة الأنانية في الإنسان هم من سينقذ الحياة على هذا الكوكب المنكوب، ثم إنه (شكرا) كبيرة جدا لكل الذين يعملون بتفان في هذه الأزمة، شكرا كثيرا جزيلا للأطباء والممرضين والعاملين في المجال الصحي، و(شكرا) كبيرة جدا للحكومة التي تعاملت بمسؤولية في هذه المشكلة. و(شكرا) - متوسطة الحجم - للمواطن العادي الذي يشارك في تحمل هذه المسؤولية بالبقاء في منزله والتعرف على عائلته.

agrni@