الرأي

الثقافة بأصالة المكان وصناعة إنسانه

علي المطوع
في الثلاثينات من القرن الماضي، قطع هتلر وعدا على نفسه أمام الألمان بصناعة سيارة قوية واقتصادية، تكون في متناول الألماني البسيط . لماذا كان الوعد سيارة؟ لأن الزعيم النازي كان يرى أن صناعة نموذج ألماني للسيارات وتسليعه وترويجه بين الناس وفق مواصفات عالية من الجودة والدقة، سيكسبه أمرين مهمين، الأول زيادة شعبية حزبه في المجتمع الألماني وذلك بترسيخ القيم النازية الوليدة آنذاك، والثاني كان يريد من هذا المشروع - صناعة السيارات - أن يعكس عظمة ألمانيا كأمة، وقدرتها على الحضور بين الأمم من خلال تلك الصناعة المهمة جدا للناس في ذلك الحين وكل حين.

وبالفعل، ولأنها ألمانيا، تفتق عقل أحد مهندسيها وصنع سيارة (الفولكس فاغن)، وجرى تسويقها والدفع بها بين أوساط الشعب الألماني بداية وفق المسمى الشهير (السعادة من خلال القوة)، والذي كان شعارا اختزلت فيه الدعاية النازية مشاريعها العدوانية التي أتت لاحقا واكتوى بنارها العالم أجمع.

سقطت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية ودمرت كليا وبقيت السيارة الخنفساء منتجا ألمانيا جبارا ما زال حاضرا في الأوساط العالمية الصناعية بهويته الألمانية كمنتج لا يشق له غبار، محتفظا بأصالته على مستوى الجودة والقيمة الاقتصادية، مجسدا الشخصية الألمانية القوية وثقافتها التصنيعية الدقيقة والمنضبطة.

هذا المثال الغريب خطر في ذهني بعد أمسية قصصية حضرتها أخيرا، فالقصة فن يستطيع المنافسة والتأثير، كونه منتجا إنسانيا له قواعده ومنهجيته ورموزه ورواده، لكن صناعة هذا المنتج والمنتجات الثقافية الأخرى في وسطنا الثقافي أصبحت يعتريها كثير من القصور في عدم المجايلة والمواكبة لحياة الناس ومتغيراتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وبشكل عام، المنتج الثقافي المحلي ما زال يصنع وفق أنماط اجتماعية قديمة أو مستوردة وأساليب كتابية عتيدة ومكررة، كان لها روادها وأعلامها وإعلامها، وهذا ما يجعله حاليا عديم الجدوى، كون صناعه يعيدون إنتاجه، وقبل ذلك إنتاج أنفسهم وفق تلك الضوابط والمقاييس المستهلكة القديمة والعتيقة.

خذ مثلا على مستوى الموضوعات لتلك الأعمال تجدها بعيدة عن سياقات الحياة اليومية للناس، بل إنها موغلة في نرجسية كتابية - إذا جاز التعبير - تعكس بعد صاحبها عن مجتمعه وعيشه في أماكن قصية، يرى ذاته من خلال تلك المكانة المصطنعة أنه الأصل وأن المجتمع بأطيافه المختلفة مجرد صور عابرة لا تستدعي وقوفه وتأمله وإعادة نظره في كل ما كتب وسيكتب.

الثقافة منتج له رواده وصناعه، سوقه ومستهلكوه، ولذلك يحتاج تسليعا وفق ما يحتاجه المجتمع وأفراده وما يراد لهم ومنهم، فالقيم المجتمعية في الثقافة والأدب لا تستورد، لكنها تبعث من خلال قصة أو رواية أو قصيدة شعرية، وهذا البعث يكون من خلال رسالة ورؤية تنطلقان من المجتمع وتعودان إليه في صور مؤثرة تصنع جيلا واعيا حيا يؤثر ويتأثر.

نجيب محفوظ تجلى عالميا بعد أن صنع منتجه المحلي الخالص، وفق ضوابط مجتمعه مفصلا على هموم الناس واحتياجاتهم، فكانت القاهرة الجديدة، والحرافيش، وزقاق المدق، كلها خرجت من الحارة الصغيرة تعكس حياة المصري وتعبر عن همه ونصبه ومنتهى أحلامه وآماله، فصنعت تلك الأعمال حالة من السعادة أفضت إلى قوة مانعة وممانعة جعلت مصر تتصدر المشهد الثقافي العربي حضورا وتأثيرا عقودا عديدة وأزمنة مديدة.

ألمانيا وبنموذجها النازي البغيض، وبظرفها التاريخي الدقيق استطاعت أن تصنع منتجا ماديا استهلاكيا تمثل في سيارة (الفولكس فاجن) صمد عبر الزمن، وأسهم في إبراز ألمانيا كأمة تصنع وتنجز وتتفوق، وبالمثل فالسعادة والتمكين من خلال الثقافة كون الأخيرة إحدى صور القوة الناعمة، لن يتحققا لنا إلا من خلال أعمال تتميز بالجودة والمناعة، أعمال تنبع من الداخل السعودي من البيئة المحلية، جودة تبدأ بالإنسان السعودي في قريته، وشارعه ومتجره ومكان عمله، تجسد إنسانيته وأصالته ومفاهيمه، تخاطب الآخرين وفق تلك المبادئ والمشتركات الإنسانية، والتي بدورها ترفع من مستوى مناعتنا الثقافية والفكرية، وتضمن لنا أعمالا ثقافية فكرية قيّمة تبقي صناعها خالدين بخلود تلك الصور والنماذج الأصيلة التي تنبع من مبادئنا وقيمنا وأعرافنا ومفاهيمنا النبيلة.

@alaseery2