البلد

خطب الجمعة

من صلاة الجمعة بالمسجد الحرام (مكة)
مقومات التميز

«ما من أحد إلا لديه عيوب، فتلك سنة الله في خلقه، وإنه لم ير في عيوب الناس عيب كنقص القادرين على التمام، وإهمال الجديرين بالتميز، والتميز غاية ينشدها كل مجتمع واع، وكل فرد هميم، وهو مقصد ظاهر من المقاصد التي أصلها الإسلام وأكد عليها، وبين أن العبرة في الأشياء بكيفها وتميزها، لا بكمها وهبائها، يقول تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ولم يقل أكثر عملا؛ لأن العبرة بالحقيقة لا بالشكل.

إن التميز ليس تكلفا ولا حمل ما لا تطيقه النفس، إنما التميز شحذ همة وبذل جهد لنفس تملك مقومات التميز، ولديها من الهمة على بلوغ درجته ما تجعل صاحبها يبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق تلكم الغاية، وإنه ما من أحد من الناس إلا لديه مكمن من مكامن التميز، غير أنهم يتفاوتون في كشفه والغفلة عنه، وما يتاح أمامهم من محاضن لرعاية الموهوبين، وما يكون من مبدأ الثواب للمتميز، فكما أن العقاب ملجم للمرء عما يقبح به، فكذلك الثواب خير حافز لشحذ همة التميز أمامه، وما ميز الله الإنسان بالعقل السليم والجسم الصحيح، إلا ليذكي من خلالهما خصلة التميز الكامنة، والناس ليسوا على حد سواء في المستوى الذهني ولا البدني ولا المعيشي، لكنهم مع تفاوتهم هذا يمكن لكل أحد منهم أن يتميز بما أتاح الله له.

إن التميز في الحقيقة ليس قيمة مطلقة لا تدخلها النسبية، فليس ثمة تميز مطلق، بل لكل تميزه اللائق به، وليس من وصفه الكمال التام، وما لا يدرك كله لا يترك كله، ووصول المتميز ولو متأخرا خير له من ألا يصل أبدا، وإن لم يستطع أن يكون في المقدمة فليحرص على ألا يكون في المؤخرة، فلربما كان تميزه في عدم الفشل حين يكثر الفاشلون، كما أن عدم تميزه يعد فشلا حين يكثر المتميزون، ولا يدخل التعثر في مثل ذلكم؛ لأن التعثر عتبة من عتبات التميز التي لا يتم الوصول إليه إلا من خلالها، وليس العيب في مجرد العثار، إنما العيب في تكرر العثار بنفس الطريقة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين»، غير أنه ينبغي للمرء أن يعلي همته ولا يضع سقفا لتميزه؛ لأن الهمة العالية إذا غامرت في شرف مروم فإنها لا تقنع بما دون النجوم».

سعود الشريم ـ إمام وخطيب المسجد الحرام

أروقة المحاكم

«إن من الظواهر التي تكثر في أروقة المحاكم ظواهر لا تليق بالمسلم أن يقع فيها، ولا يحل لمؤمن أن تقع منه مثل هذه الظواهر القبيحة، مستغلا قدرته في المطالبة ودربته في إجادة الادعاء، ومن هذه الظواهر الدعاوى الكاذبة التي لا حقيقة لها بل هي دعوى باطل وفجور، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، ومن المعلوم من نصوص الوحي وإتقان علماء المسلمين أن المسلم لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به القاضي إذا كان لا يستحقه في نفس الأمر.

من الظواهر القبيحة والأمور الشنيعة الإقدام على اليمين الفاجرة ليقطع بها المسلم حق أخيه بغير حق، يقول تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )، وقال صلى الله عليه وسلم «من حلف على يمين صبر، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان»، مشيرا إلى أن التساهل في شهادة الزور من الظواهر الخطيرة على دين الناس ودنياهم وأفرادهم ومجتمعاتهم لقوله تعالى (واجتنبوا قول الزور).

الظواهر التي يجب على المسلم الابتعاد عنها منها أن يعرف المسلم مدينا له وعنده اليقين بإعساره وعجزه عن الوفاء لأسباب وقعت له، ثم يستغل القضاء لمطالبته والتنكيل به، والواجب على المسلم الالتزام بما أرشدنا إليه الله عز وجل في قوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون).

إن من بين الظواهر التي تكثر بأروقة المحاكم مطالبة بعض النساء بالخلع من الزوج بدون سبب شرعي لا يعالجه إلا الفراق، لقوله عليه الصلاة والسلام «أيما امرأة طلبت من زوجها الطلاق من غير ما بأس فقد حرم الله عليها الجنة»، ومن الظواهر السيئة التي يلجأ فيها صاحب الحق إلى القضاء ما يحدث من بعض الزوجين بعد الطلاق، مما لا يقره الشرع القويم، من مماطلة بحقوق المطلقة المقررة لها شرعا من النفقة ونفقة الأولاد والحضانة ومؤخر الصداق وغيرها من هذه الحقوق».

حسين آل الشيخ ـ إمام وخطيب المسجد النبوي