الرأي

من الاستراتيجيات المتعارضة مع رؤية المملكة 2030

نمر السحيمي
قامت دولة الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحدد عليه الصلاة والسلام أفرادا أو مؤسسات للقيام بمهمة الدعوة داخل المجتمع المسلم. وجاء قول الله تعالى «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم» الفتح 29، والذين معه أي كل الذين معه - دون تمييز حتى بالإيمان - هم أشداء على أعدائهم المحاربين لهم، رحماء فيما بينهم، أي إن المجتمع المسلم جسد واحد وتنطلق بينه دعوة التواصي بالحق من منطلق الرحمة، دون أن يفتح باب من خلال هذه الدعوة لأي انعزال يؤدي للتمايز في أفراد المجتمع.

وتعاهدت دولة الإسلام بعد ذلك هذا النهج الوسطي المستقيم الذي لا يميز أحدا من المسلمين عن الآخر، كما لا يزكي أحدا منهم على أساس انتماء أو مظهر، مما أغلق باب فساد يؤدي في نهايته إلى نفق من الظلام لقيام التمايز في أي مجتمع على النفاق المجتمعي والتأسيس الخاطئ للفرد.

وتلمسا لهذا النهج الذي تمسك به سلف الأمة الصالح، جاء في النظام الأساسي للحكم بالمملكة في الباب الخامس، الحقوق والواجبات المادة الثالثة والعشرون ما نصه «تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله»، فجعلت المملكة هذا الواجب عاما تقوم به مؤسسات الدولة وفق نظام محدد لا مجال فيه للاجتهاد.

وحيث رسمت رؤية المملكة 2030 الصورة التي يجب أن تكون عليها السعودية الجديدة، وهي صورة راعت الرؤية فيها أن تكون امتدادا للإسلام الوسطي السمح، لتمثل هذه البلاد الدين الإسلامي الحنيف أفضل تمثيل، وتكون بإذن الله جوهرة مضيئة بين دول العالم داعية إلى دين الله الحق في الأرض بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كما نص على ذلك كتاب الله جل وعلا.

وبما تحمله رؤية المملكة من شفافية سأتعرض وأعرض بعض الملاحظات ذات الأهمية التي تسير في ركب الرؤية المباركة، متجاوزا ما يطلق عليه البعض من حساسية طالما الموضوع في إطار التقويم وتلمس تحقق المأمول.

ومن هنا يأتي التمايز عائقا حساسا لأي تقويم للمجتمع المسلم، ولعلي أزعم أنني تطرقت لموضوع لم يسبقني إليه أحد، لا لأنني أعلم به من غيري، ولكن لتركه من مستفيد منه أو منشغل عنه.

وللوصول إلى الوجهة التي أرى تقويمها هناك مؤسستان لا بد من النظر في استراتيجيتهما.

المؤسسة الأولى ديون المظالم، وهي المؤسسة التي تمارس القضاء الإداري الذي استعانت المملكة في تأسيسه بتجربتي مصر وفرنسا. وقد كان يقوم على الديوان في صورته القديمة علماء أجلاء، حتى بدأت مرحلة تطويره وصياغة نظامه، فتمت الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في القضاء الإداري، إلا في جانبين، هما:
  1. تحويل مسميات أعضاء محاكم القضاء الإداري من مستشارين إلى قضاة.
  2. اشتراط بكالوريوس الشريعة واعتماده - وإن ذكر معه غيره في النظام - لقبول المواطنين في الديوان.
فتحول بذلك المستشار عضو القضاء الإداري من مسماه الحقيقي المعتمد في كل الدول ذات التجارب السابقة لنا من مستشار إلى قاضٍ!

ولتتوافق استراتيجية الديوان مع رؤية المملكة، لا بد من إعادة المسمى الصحيح لعضو محاكم الديوان من (قاضي) إلى (مستشار) الذي يعني المتخصص أو الخبير في العلوم والأنظمة الإدارية، وتعديل ما يتبع ذلك من اشتراط الشهادة العلمية التخصصية في هذا القضاء.

سيحقق هذا القرار لبلادنا كثيرا من الإيجابيات، في مقدمتها: وقف هدر الميزانية المخصصة لهذه المؤسسة لو جرت معالجة تضخمها المتجاوز لحجمها الطبيعي في كل المجالات، فبقاء الديوان جهة قضائية سيترتب عليه ميزانية هائلة لا تقل عن ميزانية المؤسسة العدلية، خاصة في ظل ما هو مخطط لتوسعه. ومن الإيجابيات أيضا ما ستحققه الدقة في التخصص من جودة لقرارات محاكم الديوان، وبالتالي تحقق العدالة التي أنشأت الدولة هذه المؤسسة من أجلها، كما أن ذلك سيذيب التمايز الذي فرض تخصصا على آخر دون النظر للأصل الذي يجب أن يكون.

وفي هذا المقام أذكر حينما كنت مسؤولا في أحد أقسام إحدى محاكم هذه المؤسسة، أنني كنت جالسا في مكتب أحد رؤساء المحاكم الذي يشغل حينها أيضا وظيفة عضو القضاء الإداري، فأدخلوا عليه أحد المرشحين للقبول في الديوان ليراه رئيس المحكمة، فكلمه وأنا جالس، وحين غادر المرشح ووصل الباب ناداه رئيس المحكمة، وقال له: لا أجد فيك ملاحظة تعيبك إلا أنك ترتدي العقال، فهل تعلم أن القاضي لا يلبس عقال؟ فخجل الشاب المرشح، واكتفى بهز رأسه وغادر مكتب رئيس المحكمة!

والمؤسسة الثانية النيابة العامة، وما يجب ملاحظته هو اشتراط شهادة تخصص الشريعة لقبول عضو النيابة العامة، وهي الأساس المعمول به وإن اشتمل النظام على شهادة أخرى، ولكي تتوافق استراتيجية هذه المؤسسة المهمة مع رؤية المملكة لا بد من اشتراط الشهادة العلمية التخصصية في الجنائيات والتحقيقات الجنائية والادعاء العام دون غيرها، حتى لو استدعى الأمر إنشاء كليات أو معاهد تخصصية في الجامعات وغيرها باسم الادعاء العام، ولو لم يستفد الوطن إلا إذابة التمايز في المجتمع وتحقق المساواة بالفرص الوظيفية للمواطنين لكفانا ذلك، فضلا عن أن الاتجاه نحو التخصص في كادر أعضاء هذه المؤسسة سيرفع من مستوى الأداء والعدالة.

أخيرا، إن قراءة الواقع تحتم علينا كتابة مثل هذه الملاحظات مهما كانت حساسيتها، فالمجتمع السعودي جسد واحد لا تمييز فيه لعضو عن آخر، ومهما كانت الأسس التي بنيت عليها بعض المؤسسات فإن التقويم يعد ضرورة إن أردنا بناء وطننا البناء الصحيح.

alsuhaimi_ksa@