الرأي

نحن والتراث.. واقع ثائر

زيد الفضيل
تعالت الأصوات مع ابتداء القرن العشرين الميلادي المنصرم بضرورة تجديد الخطاب الديني، وكان أن نحا القوم في ذلك منحيين رئيسين، أحدهما مؤمن بأن تحقيق النهضة لا يكون إلا بإعمال القطيعة المعرفية مع تلك الكتب الصفراء وفق تعبيرهم، التي لم تعد تتناسب وطبيعة تطور الحياة الحديثة، وهو في هذه الدعوة الحدِّية تابع لما قام به علماء الأنوار في النهضة الغربية، الذين قطعوا علاقتهم بموروثهم الكنسي جملة وتفصيلا، لهذا فقد قاوم أتباع المنحى الثاني هذا التوجه بقوة وضراوة، منقسمين في خطابهم المضاد إلى قسمين، أولهما هو الخط السلفي الذي آمن بخصيصة الاتباع الكلي لما ورد في قوالب التراث من نصوص نقلية وفق ظاهرها اللغوي والدلالي، ورفض أي تغيير أو انحراف عما جاء به السلف الصالح، أولئك العارفون وفق رؤيتهم بحقيقة هذا الدين كما أنزله الله وكما يجب أن نتلقاه، دون الأخذ في الاعتبار بطبيعة التغيير الزماني والمكاني. في حين خالفهم القسم الآخر بدعوتهم إلى أهمية التجديد ضمن قوالب المدرسة، في محاولة منهم لمواكبة الآثار الناجمة عن حالة التغيير المكاني والزماني على واقع الناس أفرادا وجماعات.

ذلك كان واقع الصراع بين الرأيين خلال القرن العشرين المنصرم، وهو ما تجلى في طبيعة الحوار النقاشي الذي أشرت إليه في مقالي السابق بين فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ومعه الدكتور حاتم العوني وآخرين من المؤسسة الدينية، مع رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد الخشت.

والسؤال الذي يجب أن نتأمل فيه هو: هل لا تزال محددات الأمة في القرن 21 المعاش هي ذاتها الكائنة في القرن السالف؟ بمعنى آخر، هل لا نزال كمجتمعات وأفراد نعيش حالة من القطيعة الذهنية مع الآخر المذهبي، أم إن حالة التماهي الثقافي والحضاري وحتى الفقهي قد باتت هي الغالبة على واقعنا المجتمعي؟

في قناعتي أن جيلي الذي ولد في عقد السبعينات الميلادية من القرن المنصرم هو آخر جيل ينتمي إلى مئات سنين سابقة هادئة في تكوينها، وهو أول جيل مؤسس لمئات سنين أخرى متسارعة في طبيعة تكوينها الحضاري، والفارق بينهما شاسع جدا، إذ تميزت الفترة السالفة بثبات وبطء حالة التغيير في النسق الذهني والمجتمعي والفقهي أيضا، فلا تجد فوارق كبيرة بين الجَدِّ والحفيد، وبالتالي فقد يمر قرن وقرنان وهامش التغيير طفيف جدا، في حين أن هامش التغيير الثقافي والحضاري والسلوكي بات كبيرا ومتسارعا بشكل مذهل في الفترة الحالية، حتى إن التغيير ضمن سياق المجتمع صار يقاس بالأشهر والسنوات البسيطة، وليس العقود والقرون المتوالية.

أمام هذا الواقع الجديد ألا يجب أن يفكر الفقيه المعاصر بذهن ثورية متجددة ومتسارعة أيضا؟ أليس من الواجب خلق قوالب فقهية جديدة بمنظور جديد ورؤية جديدة تتوافق مع احتياجات الإنسان وفق الرؤية النبوية الكلية؟ بعيدا عن تعقيدات الشراح الذين تشددوا لآرائهم، وتعصبوا لمشايخهم، وكانت النتيجة أن بلغنا هذا الكم الكبير من الشروحات الفقهية والأحكام المرجعية التي اضطر الناس لأن يتركوها. إنه الدور الغائب الذي يتوجب على مجمع الفقه الإسلامي أن يقوم به، ولا أريد أن أفتئت عليهم، فلعلهم عاملون ولكن دون صوت لأسباب متعددة.

أخيرا، كم أرجو أن يدرك فقهاؤنا الكرام على مختلف مذاهبهم ومدارسهم أن الفوارق المذهبية بين الأجيال المعاصرة باتت معدومة من حيث الواقع، ومجهولة من حيث التركيب الذهني، ولم يعد يهم شبابنا بجملتهم قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، ناهيك عن المدارس الأخرى كالزيدية والإباضية والإمامية بشقيها، وهو ما يفرض تحديث مجمل القواعد الفقهية بما يتوافق مع الرؤية النبوية الساعية إلى التخفيف على الناس، والأخذ بيدهم برفق وروية إلى طريق النجاة، وتلك هي الغاية الكبرى للأنبياء، فرسالتهم منجية، ودعوة الشيطان مهلكة، فلنكن بذهننا وفكرنا وأحكامنا وقواعد تأصيلنا المعاصرة في ركب الأنبياء، وليس في ركب مَهلكة الشياطين، وكفى بذلك شهيدا.

@zash113