الرأي

السياحة والميزة النسبية

مرزوق تنباك
ميزة السنوات الثلاثين الماضية في العالم هي السياحة واختراق الآفاق وسرعة التنقل بين البلدان والقارات مما أتاحته وسائل الاتصالات السريعة بكل أنواعها، حيث بدأت وسائل الاتصال المرئي والمسموع بتعريف الناس في القارات على ما في كل قارة من مزايا وأغراض، وما فيها من بشر وحجر وعادات وتقاليد قربت بين الثقافات، وعرفت كل أهل قارة على ما في القارات الأخرى من الاختلاف والتوافق، مما جعل لدى الناس كافة شوقا إلى رؤية ما وصفت لهم وسائل الاتصال، ثم كان الحظ الأوفر لهواة التنقل والارتحال أن توفرت وسائل الاتصال المريح والسريع بكل أنواعه، الطائرات والسيارات والسفن عابرة البحار، وكل ذلك جعل الناس يقطعون المسافات في ساعات معدودات أو أيام قليلات، وجمعوا بين التجارة والزيارة ومتعة الحياة والنظر، وسالت أمواج بشرية في رحلات دائبة، وكأن كثير عزة كان يعنيهم في بيته المشهور حين وصف حركة الناس وتوجههم مسرعين كحركة السيل حين تنحدر به الأودية (وسالت بأعناق المطي الأباطح).

لو كان كثير عزة المسكين غربيا لطار اسمه في الآفاق كما طار اسم (سيجمونت باومان)، ولأصبحت صورته التي رسمها لسرعة أمواج البشر وتحركهم تدرس في جامعات العالم وتنشر عنها الكتب، ويحاضر بها الفلاسفة ويؤلف في مضامينها النقاد، لوصفه تسارع الحركة بينهم عبر الآفاق وقد سبق كثير عزة (سيجمونت باومان) بألف وأربعمئة عام، حين قدحت رؤيته الفنية الصورة الحية لحراك الناس واختلاطهم وتسارع انصرافهم إلى ما يريدون الذهاب إليه، وهو سبق عزز معنى الثقافة السائلة ووصفها الموجز أيضا.

وعلى كل حال ليس هذا موضوعنا في هذه الكلمة، الموضوع أن الناس في سيولتهم وانتشارهم وتعرفهم على كل البلاد وجدوا أن هناك ميزة نسبية لكل دولة أو إقليم أو قارة، وأغرى بعضهم بعضا في السفر والسياحة، واكتشاف الآخر المختلف لغة ووطنا وثقافة وما يجب أن يكتشف في حياتهم دفع بمزيد منهم وشوقهم لاكتشاف ما وراء بلادهم وما وراء البحار التي كانت تحيط بهم وتعزلهم، وأن هذه الميزة النسبية تدر أموالا طائلة تنتزعها الدولة المستفيدة من جيوب السياح ومدخراتهم، فصارت السياحة مصدر دخل للدولة ذات الميزة النسبية، وهذا ما دفع كل دولة أن تبحث عن الميزة النسبية فيها التي لا تتوفر في غيرها من الدول وتستغلها اقتصاديا.

هذه النسبية جعلت المتخصصين يدركون أهمية إبراز الجوانب الجاذبة للسياح في كل دولة، وأصبحت مطلبا عالميا متفقا على قيمته الاقتصادية أولا وأخيرا، وقد فتحت نوافذ الاتصال ليس للثقافة فحسب، لكن لكل أشكال الحضارات وفنونها وتصنيف الناس بعيون الآخرين، فتكونت لدى السائح الغربي صورة نمطية عن الشرق بكل تراثه وثقافاته ومعارفه وما يتميز به عن غيره من المجتمعات الغريبة، ورسم الزائر الغربي للشرق كله لوحة عريضة تحمل الألوان والأجناس والطبائع والأرض ومن عليها، لكل ما هو شرقي وما يراه مختلفا في نظره، خاصة عن ثقافته وحضارته وتقاليده ومعارفه، ومثل ذلك يقال عن مجتمع الوسط أو الشرق الأوسط، حيث تقاليده وممارساته العامة وأديانه وتعدد مصادر ثقافته.

ومثل النظرة الغربية للمجتمعات الشرقية القريبة والبعيدة كانت نظرة أهل الشرق للحضارة الغربية وتصنيف مبادئها وقيمها المختلفة، وسلوك أهلها والمقبول منها والمحرم، وما يضع عليه أهل الشرق تحفظاتهم واختلافهم وما يتعشقونه من صناعات واختراعات لا زالت شحيحة في بلادهم مستعصية عليهم، ولم يعد الشرق شرقا والغرب غربا كما يقولون قديما.

Mtenback@