الرأي

ما وراء الخلاف في هلال رمضان؟

سليمان الضحيان
من أكثر الموضوعات التي تثار حينما يقترب شهر مضان موضوع دخول الشهر والخلاف في اعتماد دخوله على الرؤية البصرية أو الحساب الفلكي، والآراء في هذا ثلاثة، رأي يرى أنه لا يجوز مطلقا الاعتماد على الحساب، وأن الحديث النبوي صريح بتعليق دخول الشهر على الرؤية كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنا أمَّة أميَّة لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا» يقصد مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، وأصحاب هذا القول يرون الأخذ بالحساب ابتداعا بالدين، ومخالفة للإجماع وهدي الصحابة والسلف. والرأي الآخر يرى الأخذ بالحساب الفلكي؛ لأنه قطعي، مثله مثل حساب الكسوف والخسوف وحساب دخول الصلوات ووقت الفطر والإمساك في أيام رمضان فكلها تتم بالحساب الفلكي، وأن الحديث علَّل عدم الأخذ بالحساب بأمية الأمة آنذاك فيما يخص الحساب الفلكي، وأما إذ زالت تلك الأمية فيزول معها الأمر بالرؤية البصرية؛ لأن الحكم الشرعي المعلل يزول مع علته وجودًا وعدما. ورأي ثالث غريب مرقع من الرأيين، وهو الأخذ بالحساب في نفي ولادة الهلال، فمن ادعى رؤيته رُدَّت شهادته، وعدم الأخذ بالحساب في إثبات ولادة الهلال حتى تثبت رؤيته البصرية بشهادة العدول الثقات، وهذا من غرائب الأقوال، فهو يؤمن بصواب الحساب وقطعيته في النفي، ويرد الرؤية البصرية التي يرى أن الحديث نصَّ عليها؛ لأنها يستحيل تحققها، ثم هو لا يأخذ بالرأي الفلكي في ولادة الهلال حتى يُرى بصريّا! فإذا كان يرى نفي الحساب الفلكي للولادة قطعيّا فإثباتها قطعي بالضرورة، وما الرؤية إلا مجرد تأكيد؟، وقد سألت أحد كبار المتخصصين بالفلك عن هذا التناقض، فقال: هي خطوة جيدة ستؤول للأخذ بالحساب في الإثبات والنفي لاحقَا. لكن هذا الفلكي الجهبذ فات عليه إدراك الخلاف الحقيقي وراء قضية الخلاف في دخول شهر رمضان، وهو مقصدي من إيراد هذه القضية، فهي مثال على منهجين من مناهج التعامل مع النص الديني فيما ليس تعبدا محضا، المنهج الأول يتمسك بحرفية النص بألفاظه كما رواها رواته – ولو كانت بالمعنى – فتكون دلالة النص الديني محصورة بمنطق اللغة وفق بنيتها تراكيبَ ودلالاتٍ دون التفات لمقصد النص الكلي وأثر الاجتماع البشري المتغير في دلالة النص، وهذا هو الغالب على تعامل الفقه التراثي مع النص الديني، ومحصله تثبيت دلالة النص بمنطوقه اللغوي وفق حركة الاجتماع البشري وقت الرسالة. ومنهج آخر يتجاوز الدلالة اللغوية للنص، ويتعامل معه وفق رؤية كلية تعتمد على المقاصد الكلية للدين، وهو لا يهمل دلالة النص اللغوية لكنه يربط النص بالمقاصد الكلية، ويرى أن الاجتماع البشري له أثر في فهم النص، فالنص الديني المعقول التعليل – وهو ما لم يكن تعبدا محضَا - ليس متعاليا على الواقع، بل هو في جدلية مع معطيات الواقع وحركة الاجتماع البشري؛ لأن النص جاء لمعالجة أمور خاضعة لحركة الاجتماع البشري، ويرى أنه بهذا المنهج تتحقق صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان. ومن المبالغة القول بأن أصحاب القول الثاني من أنصار هذا المنهج؛ إذ إن اختلافهم المنهجي مع منهج التعامل الحرفي مع النصوص - وهو منهج أصحاب القول الأول - اختلاف درجة، وليس اختلافا جذريّا، لكن مجرد وجود هذا الخلاف هو دليل على بداية تغير في منهج التعامل مع النص الديني، وما يلبث هذا التغير أن يتوسع حتى تكون له الغلبة، وهذا التغير ستفرضه حاجة الواقع والاجتماع البشري الذي تغير جذريًّا في العصر الحديث.