الرأي

المبادرة.. جمرة لا نقوى عليها!

أحمد الهلالي
بادرة عادية لكنها (مدهشة) بميزان عصرنا من الشاعر علي بن يوسف الشريف، رئيس اللجنة الثقافية بالليث، فقد عرفته متواضعا خلوقا وشاعرا عذبا، وتضاعف إعجابي به أكثر قبل أيام حين أرسل لي منشوره على (الفيس بوك) المتزامن مع رؤية التحول الوطني، وقد ترجم الأقوال أفعالا، وفحوى المنشور: أن الرجل بعد أن رأى استفحال العصبية القبلية والتفاخر الممقوت بالأنساب على مستوى الوطن والمناطق والأقاليم وحتى على مستوى النطاقات الضيقة، وبعد هاجس ممتد قرر أن يتخلص من (شجرة نسب العائلة) التي تتخذ صدر مجلسه مقاما دائما للتباهي أمام الزوار والأضياف في تقليد منتشر بين كثيرين، فاستبدلها بخير منها (آيات من كتاب الله الحكيم). هذا الفعل الشجاع من شاعرنا يضعنا أمام قيمة شبه غائبة في مجتمعنا، قيمة (المبادرة) التي حاورت فيها الأستاذ (عبدالرحمن اللهبي) حين تساءل على تويتر: (لماذا يغضب الضيف حين أقدم له مأدبة أسماك تفوق سعر (الطلي الحري)؟ فتبنيت وجهة نظر المجتمع الذي لا يجرؤ فرد فيه على التغيير بفعل الزمن واختلاف الأجيال، لغياب قيمة (المبادرة) بالأفعال إلى مواجهة العادات السلبية، وإحلال العادات الإيجابية محلها لتتناسب وظروفنا المعيشية أو البيئية أو الثقافية، وقد أصبحنا جميعا منظّرين، ندعو إلى نبذ الإسراف، لكن جلنا يسرف، ندعو إلى تقنين الإنفاق على حفلات الزفاف، وجلنا يستدين وينفق، ندعو إلى نبذ العنصرية والتفاخر بالأنساب والمناطق، وجلنا يفاخر ويغض من قدر الآخرين بشكل أو بآخر، حتى على مستوى الجنسية، والطامة حين تصدر هذه الأفعال من قدوات أحيانا! لنتوقف عند مناسبات الزفاف خاصة وقد بدأت الدعوات تهطل على هواتفنا، ففي دراسة لأحد الباحثين حدثني عنها (الشاعر محمد بن نغموش)، يقال إن متوسط تكلفة ليلة الزفاف تبلغ ثلاثة ملايين ريال، بمعيار متوسط استخدمه الباحث أدخل فيه تكاليف الزفاف بكل بروتوكولاته شاملة إنفاق المضيف والمدعوين، وهو رقم مهول لمناسبة واحدة فقط، فما الذي أوصلنا إلى هذا الرقم؟ وما المغزى من هذا الإنفاق المحموم على مظاهر لا تقدم ولا تؤخر في الحياة الزوجية؟ ففي الوقت الذي تسعى فيه بعض الجمعيات الخيرية وإمارات المناطق وبعض القبائل (النادرة) إلى نشر ثقافة الترشيد، والزواج الجماعي لأبنائها، تجد جهات وشخصيات لامعة تتباهى بالإنفاق في مناسبات خاصة، وتنشر صورها على وسائط الإعلام الجديد، وعبر القنوات الشعبية، وكأن لكل فعل إيجابي فعلا مضادا يجب أن يحد من تأثيره. في مناسبات الزفاف أصبح توزيع الدعوة ميسورا، فيكفي أن يطبع الداعي (بطاقة واحدة) ثم يصورها ويوزعها عبر تقنية (الواتس أب) على كل من يعرفه، (كما فعلتُ الأسبوع الماضي)، ويتعاون الأقارب في توسيع الدعوة على أكبر نطاق ممكن، وأمام هذا النشر الهائل لا بد أن يعد العدة لإعداد وليمة كافية، فإن حضروا جميعا كفتهم، ولكن غالبا يحضر النصف، وهذا يتسبب في فوائض المأدبة والهدر المالي للداعي، ثم هناك من أصحاب الدعوات من لا يراعي المشقة على الناس، فيدعو الساكنين في مناطق بعيدة جدا دون مراعاة، فلا دهشة أن يُدعى رجل من الطائف لحضور حفلة خطوبة أو مُلكة في الرياض، أو الأحساء أو عرعر، والطامة حين أصبح الزواج عدة مناسبات مرهقة (خطوبة/ شبكة/ ملكة/ غمرة صغيرة/ غمرة كبيرة/ وأخيرا الزفاف) وغيرها، وربما يكون الطلاق بعد شهرين! سنقف على بُعدين خاطئين من الداعي، الأول: لو تلطف وبادر بكتابة عبارة (أرجو تأكيد حضوركم قبل ثلاثة أيام من تاريخ المناسبة)، فهذا سيكفيه الهدر المالي والإسراف، ويكفي الآخرين المشقة. والثاني: ألا يدعو من تزيد مسافة سفرهم عن 150 ـ 200 كلم، وإن تحتم فليكتب عبارة (نتشرف بدعوتكم، ولبعدكم ومشقة السفر نعذركم)، ولا عيب في هذه العبارات، وقد سوّغ المجتمع عبارة (يمنع اصطحاب الأطفال)، وأخضع المدعوات للتفتيش عن الجوالات بالكاميرا، وتقبلها المجتمع حتى صارت عُرفا. روح المبادرة الحقة لا تبدأ من العامة، وإنما من الخاصة، وقادة الفكر أصحاب الأثر الاجتماعي، بداية من الأمراء والمشايخ (اجتماعيا/ ودينيا) والمثقفين والمشاهير علميا وفنيا ورياضيا وإعلاميا، وغيرهم من المؤثرين، فهم الأقدر على تعليق الجرس (فعلا) لا قولا فقط؛ لأننا جميعا خاصة وعامة نقول وننظّر، لكن في انقطاع شبه تام عن التطبيق، فقد أرهقت المجتمع عبارة (وش يقول الناس عنا) حتى وصلنا إلى حالة من التقليد العجيبة والتباري في تحميل الناس فوق طاقاتهم. ليبادر الخاصة، ولنتكاتف جميعا في قرن أقوالنا بالأفعال ضد العادات الاجتماعية السلبية، وليصاحب تحولُنا الاجتماعي الإيجابي تحولَنا الوطني، من خلال تفكيك القيود المرهقة، سواء ما ذكرتها هنا تمثيلا أم غيرها من التقاليد والعادات التي تنافي روح الإسلام وتوجه العصر والمجتمع.