الرأي

خضاب الأدمغة!

أحمد الهلالي
الإرهاب، ذلك الشبح المرعب الذي أصبح ملتصقا بالإسلام ـ شئنا أم أبينا ـ يحار المفكر في منابعه ومغذياته، ويحار أيضا في ضحاياه، أهم المنفذون أم المستهدفون عمدا أو من اختارتهم زمكانية الحادث فقضوا نحبهم، وتمتد الحيرة إلى كثرة الشباب السعوديين حين يصبحون أدوات إرهابية عنيفة في مقتبل أعمارهم غالبا. بعد عملية بيشة وتداعياتها في مكة وجدة والطائف، وانتشار المقطع المنسوب إلى الإرهابي الشاب في مركز (حداد بني مالك) بملامحه المرتبكة، وحاله المزرية، وكلامه المقولب الذي يردده كل من سار في نفق الإجرام الدموي، وبعد تقرير العربية (حساب المحرضين) حاورت عقلي، ورجوته أن يهديني إلى النبع الذي يجعل شابا في سنه يضحي بكل شيء حتى حياته في طريق يعلم تماما أن فيه هلاكه، كمن سبقوه. في رأي عقلي: السبب ليس في الدين مطلقا، فهو دين التسامح والمحبة والسلام، وليس في آثار السابقين؛ لأن آثارهم قالوها في ظروف مرحلتهم التي شكلتهم وشكلت مقولاتهم وفتاواهم حتى، وإن كان للأدلة الدينية أو المقولات القديمة من تأثير في فكر الشاب المسلم تدفعه إلى العنف، فهذا التأثير ليس منها، بل من تكييفها وتوجيهها الوجهة التي تدعم الفكر المغذي للإرهاب. ما يزال الوعي العربي قاصرا عن فهم المرحلة التي نعيشها اليوم، فاختلطت على الأفهام الدروب، وتوعرت المسالك، فعاطفة العربي توجه عقله إلى زمن الدولة الواحدة الممتدة من الصين إلى حدود فرنسا، فحين تنطلق مقولات المحللين السياسيين على الحدود بين الدول العربية الحديثة المعتمدة في ترسيمها على (سايكس بيكو)، متناسين أن الغرب الذي نراه أمة واحدة تقسمه الحدود واللغات والمعتقدات، لكن مقولات المحللين تلتقي مع هوس التاريخ المعتمل في أدمغة بعض المتدينين، وقصة (وامعتصماه) وغيرها من أقاصيص التاريخ، فتتضخم في نفوسهم الحسرة على الضياع، لتكبر معها (الأممية) التي لا يخلو منها خطاب ديني يضخ إلى أدمغة الأجيال. لم تصمد الحدود السياسية الحديثة في نظر المتدينين، ولم تخبُ جذوة الدولة الواحدة؛ لأنهم ببساطة يقرؤون التاريخ بعاطفة لا تعترف بالعقل مطلقا، فكما قال الدكتور سعيد السريحي بتردد العقل في قبول فكرة تحرك الجيش الإسلامي بأكمله في مغامرة فتح عظمى من أجل خبر رجل صفع امرأة مسلمة في عمورية فصاحت (وامعتصماه)، لكنها تدرّس لأبنائنا على أنها الحقيقة التي لا غبار عليها، وحين تخرج امرأة عربية في أي منطقة من مناطق النزاع تشق ملابسها على الهواء وتنتحب (أينكم يا حكام العرب؟) يعتمل اللاشعور بخيبة عظمى، ويستدعي نحيب الشيخ وبكاءه على منبر الجمعة أو الأشرطة أو برامج التواصل وهو يجرّم الحكام العرب الذين عطلوا الجهاد، وتآمروا على الأمة. تضج منابرنا المتعددة بالخطاب الأحمر، وربما صاحب ذلك الخطاب لا يعلم أنه يغذي الإرهاب، بل يجزم أنه غيور ويقول حقائق لا تقبل المناقشة، فلا يرى حين يقول للمصلين في خطبة الجمعة مثلا: «إخوانكم يقتلون، وأخواتكم تُنتهك أعراضهم، ويشرد أطفالهم» ثم يدعو الأمة للجهاد ونصرة المظلوم، ويؤيد قوله بالأدلة الدينية والآثار، فيبلغ قوله مبلغه في عواطف الناس كـ(هادي البقمي) في تقرير (حساب المحرضين)، هذا إن كان المخاطب (حسن النية) فما بالك حين تنطلق خطابات المنضوين تحت أفكار سياسية أو طائفية أو ما شاكلها. إن الخطاب الأحمر يروج بين عوام الناس، وخاصة صغار السن، من معلم أو أستاذ جامعة أو خطيب، أو شاعر أو متحدث في مجالس الناس بأنواعها لا يؤمن بالوطنية، ويرى (الأممية) هي الحل الوحيد للحياة، ليستمر في حشد الفكرة في كل من حوله، فيؤثر ذلك الخطاب عميقا في بعضهم حتى يكرس حياته للفكرة، وربما يصل إلى درجة نصرتها بروحه إيمانا بصدقها، وتتعمق في نفسه أوصاف شيخه (الذي لا يخاف في الحق لومة لائم)، شيخه الذي يسمي الوطنيين (علماء السلطان)، العبارة المنطوية على مفهوم أحمر عميق جدا يؤكد الإيمان المطلق بفساد الدول ومن يقف معها من العقلاء، وتآمرهم على الأمة. معظم المحاربين في سوريا والعراق أو في الداخل، لم يخرجهم إلا الخطاب الأممي الأحمر (السني/ الشيعي) الذي حوّل الثورة السورية السلمية بين قيادة وشعبها إلى حرب دينية مذهبية مهلكة، إلى درجة ادعاء أحدهم ـ بصفاقة ـ أن الملائكة تحارب إلى جوار (المجاهدين)، حتى جيشوا صدور الشباب فخرجوا بالمئات، ومن لا يؤمن بنصرة شعب تحارب إلى جواره الملائكة؟!، فتستحوذ (داعش) على عقول بعضهم بادعائها تحقيق الحلم الأكبر (الأممية/ الخلافة) المزروع في أعماقهم بفعل الخطاب الأحمر. ويظل المحرضون بمنأى عن المحاسبة والتنكيل، ويستمرون في تفخيخ أدمغة المراهقين، وبرمجتهم عاطفيا حتى يتقبلوا بفرح فكرة (الانتحار)، والانقلاب على أوطانهم يكبرون ويهللون بقتل أنفسهم وأهليهم والمسلمين. alhelali.a@makkahnp.com