القناعة والطموح
السوق
الاحد / 22 / شعبان / 1437 هـ - 21:15 - الاحد 29 مايو 2016 21:15
القناعة والطموح قيمتان عظيمتان. وقد وصفت السيدة عائشة، رضي الله عنها طموح النبي، عليه الصلاة والسلام، فقالت: «كأنما قد رُفِع له عَلَم فشمّر له»، أي إن هدفه واضح ورؤيته جليلة وكان ينطلق لتحقيق ذلك الهدف. وما دمنا نتكلم أيها الأعزاء عن القناعة والطموح، فأي رجل أعمال حالما تطرح عليه قيمة القناعة والطموح، لا شك أنه سيعود بالفكر والذاكرة إلى بداياته وما صاحبها من طموحات وقناعات وكيف وصل لتحقيق أهدافه.
والقناعة والطموح كلمتان قد تبدوان للبعض متضادتين، بينما هما على العكس من ذلك، فالقناعة هي الرضا، وهى حالة نفسية تدفع إلى رضا الإنسان بواقعه، ولا يعني هذا الرضا بالطبع ألا يسعى الإنسان إلى تحسين وضعه. ولكن إذا تذمّر من الوضع واشتكى، ويئس وبكى، فلن يجني غير أضرار نفسية ومَرَضية ودينية. فإن تذمّرت من وضعي ورفضت واقعي، ففي هذا نوع من عدم القبول بقضاء الله وقدره.. وهذا ما لا يليق بمسلم مؤمن فعله.. وإذا تذمّرت من حالتي فسأعيش حياة قلق واضطراب، وقد يدفعني هذا إلى النظر إلى ما بيد الآخرين، وقد أغبطهم وقد أحسدهم، وكما قلنا في مقالات ماضية ونحن نتحدث عن القيم، بأن الحسد من القيم السلبية الكبيرة التي تأكل النفوس وتحرق الأكباد. ولكن بالطبع إذا كان الأمر غِبطة فهذا شيء جيد ومرتبط بالطموح. نعم أتمنى أن أكون مثله ولا أتمنى زوال نعمته، فالقناعة تعطيني الرضا، والرضا يعطيني الاطمئنان ويدفعني إلى تحسين وضعي علميا وماديا واجتماعيا. وعكس القناعة الطمع وليس الطموح. والطموح عند الإنسان المسلم العاقل يترافق مع القناعة في خطين متلازمين، بينما الطمع والقناعة ضدان لا يلتقيان ولا يتفقان أبدا.
والقناعة من القيم المهمة المريحة للنفس بما تولده فيها من رضا بواقع ليس المراد به عدم بذل المجهود لتحسينه وتطويره.
ولك عزيزي القارئ أن تقارن بين أخوين شقيقين، أحدهما لديه من القناعة ما أرضاه بما قسم الله له، ويبذل جهدا ويعمل بجد ويجتهد بإخلاص لتحسين واقعه.. فتجده سعيدا هو وأسرته، خاصة إذا رزقه الله بزوجة صالحة قنوعة تعينه على تحقيق أحلامهم، بينما الشقيق الآخر شقي طماع يهدر جهده ووقته في النظر إلى ما لدى الآخرين، وزوجته ليس لها حديث إلاّ: انظر إلى جارنا الثري، وانظر إلى فلان اشترى سيارة جديدة.. وهذا واضح للفرق بين الطمع والطموح. والحقيقة أنا لا أُورد ما أقول وعظا، فلست بواعظ، ولا علما ولست بعالم. ولكنني أتحدث عن تجربة ذاتية.. فلقد نشأت في عائلة لا أستطيع أن أقول إنها متوسطة المعيشة، بل كانت إلى الفقر أقرب. لكن بفضل الله تعالى ثم والدي ووالدتي، رحمهما الله.. ونحن الأبناء كانت لدينا القناعة والرضا.. ولكنهما لم يجعلاني أترك الحلم بتغيير الواقع الذي كنت أعيش فيه.
فبدأت أفكر منذ أن كنت في السادسة أو السابعة من عمري.. وكان أمام بيتنا عائلة من أثرى أثرياء مكة المكرمة، وتربطنا بها صلة قرابة «من بعيد» وكنت أقارن دون حسد وبكل غبطة بين وضعنا ووضعهم مع كامل الرضا وبالغ الأمل والرجاء.. ومنذ ذلك الحين بدأت أفكر كيف أغناهم الله من فضله، فوجدت أنهم كانوا كلهم تجارا وليس فيهم موظف واحد في الحكومة، وتولدت لدي قناعة أن وظيفة الحكومة لن تغني.. وكان هذا هو إلهام التجربة الأولى في حياتي، وأولى خطواتي على طريق الطموح.
غير أن كثيرا من الناس يستدل ببعض النصوص الشرعية، فيروي مثلا حديث «اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين»، والحقيقة عندما يدعو الحبيب، عليه الصلاة والسلام، أن يُحشر مع المساكين، ويأتي البعض ويفسرها - المسكنة - على أنها قبول بوضعه دون عمل طيب لتغييره، فهنا يكون الاعتراض، لأنهم نسوا الآية الكريمة التاسعة والسبعين من سورة الكهف (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ..) وهذا يدل على أن المسكين هو العامل.. ولكنه لا يجد ما يكفيه، مع أنه قادر على العمل ويعمل، بعكس الفقير المعدم الذي لا يجد ما يقيم أودَه.. ولو نظرنا إلى أسهم الصدقات في الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ..) لوجدنا أن هذا دليل على أن الفقراء الذين تقدم ترتيبهم غير المساكين.. ويجب ألا ننسى أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، عمل بالتجارة وربح ووزع الأرباح وزوجته السيدة خديجة، رضي الله عنها، حين عمل معها. فالمسكين ليس معناه أنه ليس بغني، وإنما يحتاج إلى بعض المال ليعمل به وينميه والذي هو عنده على شكل حرفة أو مهنة مع الجهد والعمل.. ومع القناعة والرضا والطموح.
وأمامي نصّان في قيمة القناعة والطموح..
النصّ الأول قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه ورضي عنه، وهو ينصح التجار قائلا «يا معشر التجار خذوا الحق تسلموا، ولا تردوا قليل الربح فتُحرَموا كثيره».
والرواية الثانية: لعبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، عندما سُئل عن سبب غناه فقال «ما رددت ربحا قط».
وفي نصيحة سيدنا علي، رضي الله عنه، قاعدة اقتصادية كبيرة، قال بها قبل أكثر من 1400 عام، وقبل اكتشاف النظريات التجارية.. وهى أن رخص الأسعار يؤدي إلى زيادة الطلب، وزيادة الطلب تؤدي إلى زيادة العرض التي تؤدي إلى زيادة العمالة والتي تقود إلى زيادة الرواتب.
نعم قارئي العزيز، التمعن في هذين النصين والحديث عنهما قد يحتاجان إلى مقالات كثيرة.
«ولا تردوا قليل الربح فتُحرَموا كثيره» فإن رفعت السعر فلن تجد من يشتري وستبور التجارة، وقد يحدث استغناء عن بعض العمالة، ومن هنا قد تحدث البطالة إذا قلّ المال في المجتمع، ولم نحسن إدارته والاستفادة منه تجارة واستثمارا.
والربط الواقعي بين التجارة والاستثمار، والذي جاءت به المراسم الملكية الموفقة الكريمة، وجعل التجارة والاستثمار في وزارة واحدة، إنما هو دليل على البدء في تفعيل الرؤية السعودية 2030، والتي بدأت ملامحها تظهر في الأفق منذ الآن 2016، هي في الواقع رؤية حكيمة لقيادة رشيدة.. تناولناها حديثا وتأملا وأملا.. خلال اللقاء الذي جمع التجار ورجال الأعمال بمعالي الأخ العزيز الدكتور ماجد القصبي، وزير التجارة والاستثمار، بعد مدة وجيزة من تعيينه في هذا المنصب، بعد ربط التجارة بالاستثمار للعلاقة الوثيقة بينهما، فكل تسهيلات الاستثمار وتراخيصه ومحفزاته وعناصره ستجعل من الربط بينهما في وزارة واحدة أمرا يدفع بالإنجازات على طريق معبّد ميسر، ذلك أن خلفية الدكتور ماجد القصبي بالنسبة للغرف التجارية رغم أهميتها وضرورتها، فأنا أكاد أجزم لمعرفتي بهذا الرجل أنها لن تدفعه لمجاملة التجار، فقد وُضِعَ في موقع الحكم لكل الأطراف، وأنا أعرف أنه يدرك هذا بلا شك.
بالإضافة إلى أن مكتسباته الإنسانية حين أدار الشؤون الاجتماعية، وضعته في موقع يرى منه بكل وضوح ما تحتاج إليه كل جهة، من أجل أن يتحقق للوطن ما تريده الرؤية المباركة من استشعار باحتياجات المواطن، ومسؤوليات القطاع الخاص، في توازن مكتمل بغرض تحقيق الأهداف.
ذلك أن التاجر بدون المستهلك لا يفيد، والمستهلك بدون التاجر لن يستفيد. وأعلم أن التاجر قد يُظلَم أحيانا بسبب ظروف عالمية، لا حيلة له فيها.. فترتفع الأسعار.
والحمد لله على ما أكدت عليه الرؤية العميقة 2030 والتي ندعو الله أن يحفظ صاحبها العادل الملك الشجاع سلمان بن عبدالعزيز، والتي يبذل من أجلها أمير الشباب والأمل محمد بن سلمان كل الجهد وكل الوقت من خلال طموح لا يُحد ومتابعة ليس لها حد.. بتعضيد وتأييد ولي العهد الأمين لها..
نسأل الله جميعا أن يوفق قيادتنا الرشيدة لما فيه صالح البلاد وخير العباد، إنه ولي ذلك، وهو على كل شيء قدير.