الرأي

شيطنة بزورة

محمد أحمد بابا
فكرت كثيرا في التدريب المهني والتعليم الفني فوجدتني أعود بذاكرتي لأيام الطفولة، حين كنت نجارا صغيرا في بيتنا الحميم مع والدي وإخوتي وأخواتي وجدتي رحمها الله تعالى. أتذكر سطوح بيتنا حين كنت أشتري -كلما سنحت لي فرصة ريالات عطاء أو هبة أو شرهة أو خيانة مصروف- مطرقة أو منشارا أو بضعة مسامير وحقيبة جلدية أودعها هذه اللوازم. مرة وجدت قطعة من الخشب في باحة منزل يبنى بجانبنا فتأملت فيها خيرا وحملتها لذلك السطوح ومكثت أياما أضع خلف أذني قلم رصاص وأستخدم مسطرة المدرسة لقياس زوايا ما أحاول صنعه، فنشرت وهذبت ودققت مسمارا تلو آخر في شكل إصرار على النجاح حتى صنعت صندوقا خشبيا له قفل ومفتاح. بعد يومين جاءتني فكرة أن أجعل الصندوق صاحب ألوان، فتحولت لصباغ وذهبت لآخر شارع «السيح» بالمدينة واشتريت أصباغا ذات حجم صغير وفرشاة تناسبها ورجعت إلى البيت فرحا، وفي ظهر يوم حار فتحت تلك العبوات وصبغت الصندوق بألوان الطيف وتركته في الشمس ليجف. بعد يوم جئت لصندوق العجائب هذا أحاول فتحه بمفتاحه وعبثا أحاول حتى باءت كل الجهود بالفشل، فقد ألصق الطلاء أطرافه وأحكمت الشمس تماسكه فصار كأنه مكنون شيء عجيب لا علامة له بارزة سوى أني صانعه. كل هذا وأبواي لا يعلمان، فقد كنت اختلس الأمر وكأنني أشرب الدخان أو أشفط الغراء دون علمهما، ففي ذلك الزمن كل عمل يجلب صوتا أو اتساخ ثياب أو عدم مذاكرة هو «شيطنة بزورة» بامتياز، تستحق العقاب وربما مصادرة أدوات الجريمة. انكفأت على ذاتي حينها وحولت الهواية لجمع الطوابع وشراء مجلة ماجد وكتابة شعر لا أحسنه وأنا عالق بذلك الصندوق ولم أشف منه حتى اليوم. خطر على بالي هذا الأمر وأنا أتلمس طريقا في نجاح خطة التدريب المهني والتعليم الفني في وطني طيلة ثلاثين سنة على الأقل عاصرتها وذلك التشجيع العظيم للكهربائي واللحام والنجار ماديا ومعنويا للعمل والمهنة الحرة، لكني فتشت عن مستهدفي ذلك العصر فلم أجدهم. قلت لنفسي اليوم: أليس بالإمكان استثمار «شيطنة البزورة» ونحن في عصر الانفتاح والفكر والتقنية وعولمة المعلومات لتكون رائدة في تدريب مهني وتعليم فني يقتحم ثقافات المنازل وطقوس البيوت وإجازات الطالبات والطلاب وفق برامج محكمة فعالة ناشطة عامة؟ وجدتني أتصور الأطفال في «كيدزينيا» وهم يحاولون تقمص مهن وأعمال، وتخيلت حرفا كثيرة سهلة وجذابة تنطوي تحت مشاركة في أعمال المجتمع الأسري لو أحسن المخططون استغلال الحاجة لها لكان لنا باع كبير في أطفال ومراهقين أصحاب حرفة ومهنة تصاحبهم في تعليمهم وتفيدهم ولا تضرهم. وحين عدت لشخصي تمنيت لو لم يلتصق ذلك الصندوق بعضه ببعض وفتح لي آفاق نجارة لصنعت من الخشبة عجبة كما يقال. baba.m@makkahnp.com