الرأي

جدَّة والحداثة..استقبال الغذامي

حسين بافقيه
كان ما مضى شيئًا مما علق بالذاكرة عن «الخطيئة والتكفير»، فإذا ما عدوتُ الذاكرة، وذهبت ألتمس أثره في ثقافتنا، كان أول ما يستجلب النظر أنه أتيح له من ألوان القراءة ما لم يتح لكثير من المؤلفات، وتستطيع أن تذكر ممن قرأه: الأديب، والناقد، وأستاذ الجامعة، وطلاب اللغة العربية وآدابها، والطبيب، والمهندس، والشيخ، والعامة من القراء، ولعل كثيرًا منهم تسامع بالكتاب، وما قيل فيه، وقد أصبحت «الحداثة» موضوعا يثير الفضول، ففزعوا إلى المكتبات يلتمسون هذا الكتاب، يقرؤه الأديب رجاء أن يستفيد منه علما جديدا وفهما مختلفا للأدب ونقده، ويظهر عليه آخرون فعسى أن يمسكوا بأثر لهذا العنوان الجافي الغريب «الخطيئة والتكفير»، وقد تدرَّع بمسوح «نصرانية»، هكذا زعموا، ولطالما تَهامس الناس في الجامعة والمسجد عن ذلك الكتاب «الزهريّ» الذي حشاه صاحبه «هرطقة» و»تغريبًا»، وربما سمع نفر غير قليل خطيب المسجد يذكر هذه «النابتة» من «الحداثيين»، والناس، مهما علا تعليمهم أو سفل، يسمعون لإمام المسجد وخطيبه، ولا يسألون على ما قال برهانًا! حتى إذا ما أقلتهم مركباتهم، سمع فريق منهم «شريطًا» لهذا الشيخ أو ذاك، وكل ما فيه تخويف الناس من خطر تلك «النابتة» على ديننا وقيمنا وثقافتنا، فلما ضربت الأيام، صارت «الحداثة»، وصار «الحداثيون»، ومنهم الغذامي وكتابه، على كل لسان، وأظلَّ الناسَ زمان، تخيَّلوا فيه أن أولئك الأدباء والنقاد والمثقفين إنما هم «فرقة» كل همها الكيد لديننا، فخافوا، ووجلوا، وازدادوا حنقًا عليهم!

كل ذلك نال الحداثيين كثيرٌ منه أو قليلٌ، ونال الغذامي شيءٌ منه، فعرف القراء كتابه كما لم يعرفوا كتبًا أخرى، ومن الحق أن نقول: إن الكتاب كان في موضوعه جديدًا، ولا خلاف في أن «الخطيئة والتكفير» لم يسترفد «النظرية النقدية الحديثة» تفاريق، وإنما استوعبها في كتابه جملة واحدة، وهذا أمر جديد لم تعرفه الحياة الثقافية في بلادنا، ثم عرفته «طفرةً» واحدة، لعلها لم تكن لتطيقها، ولم تستطع إساغتها، فبشمت. لكن، مهلًا، فما كل الناس ثاروا بالغذامي وكتابه، وما كلهم نقموا عليه ذلك الكلم، وكُنْ على ذُكْر أن مما أتاح للكتاب الذيوع والانتشار، أن أشياخ الأدب في الحجاز قد تحمَّس نفر منهم للكتاب ومؤلفه الشابّ، وكان عزيزًا عليهم أن يخصّ أستاذ جامعي أديبًا من أدباء الرعيل توفَّاه الله، في العام الذي شدَّ فيه عبد الله الغذامي رحاله إلى بريطانيا طلبًا للعلم، عام 1391هـ، ولعله أعجبهم فيه أن اتخذ حمزة شحاته، موضوعًا لكتابٍ هذه صفته، وأغلب الظن أن الكتاب كما استغلق عليَّ، آنئذٍ، استغلق على أولئك الأشياخ، وأنهم طووه ولمَّا يمضوا في قراءته، فما لهم وما للكلم الجديد الذي ساقه إليهم الغذامي في «البنيوية»، و»التشريحية»، والبلاء البلاء في «الصرفيم»، و»الصوتيم»، و»موت المؤلف»! لكنهم صبروا على ما في الكتاب من غموض، وأدُّوا للمؤلف ما يستحقه من شكر، ولا بدَّ أن تعرف أن الغذامي كان وفيًّا لهم حين أزجى إلى نفر منهم الشكر، وربما سرَّهم أن يصطنع تلميذ الشيخ الفقيه محمد الصالح العثيمين منهجًا في درس الأدب جديدًا، وعساهم رأوا في ذلك لونًا من ألوان التسامح كانت حياة الناس في المملكة تستدنيه.

bafaqih.h@makkahnp.com