الرأي

الإسراء والمعراج.. تأمل وتدبر

السوق

صالح عبدالله كامل
سبحان الذي جعل الأمة الإسلامية من الحوادث والأحداث ما يجمعها ويوحدها – رغم أنف السياسة – أكثر مما يفرقها.. وجعل كتابه العزيز لها دستورا، وإن تعددت في بلدانها الدساتير، وبعث فيها نبيا رحمة للعالمين، وجعل من سيرته ومحبته عليه الصلاة والسلام من الحب والعبر روابط ما تزال تشد إلى بعضها شدا، رغم كل محاولات الفرقة التي يحاول أعداؤها أن ينشروها، ورغم كل الفتن التي يحاولون أن يزرعوها.

فجعل الله تعالى يوم مولده الشريف روضة يتفيأ ظلالها كل العاشقين لنوره، وجعل يوم هجرته بداية لتاريخ مشرق جديد، وجعل يوم وفاته تأكيدا على أن الله حي لا يموت، وجعل يوم إسرائه ومعراجه موعدا مع مكافأة الصابرين، وتسرية لقلوب المؤمنين، ومحكا للصادقين، وفتنة للقوم الظالمين.. عليه صلوات ربي وملائكته وسلام الخلق أجمعين.

وبالأمس احتفلت أقطار المسلمين بذكرى الإسراء والمعراج «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير».

وكانت الأحداث ـ كما نعلم جميعا ـ قد تعاقبت على حبيب الله ومصطفاه عليه الصلاة والسلام، قبيل منحة الإسراء والمعراج الربانية لرسول البشرية الأعظم، وكانت الأزمات تتوالى واحدة إثر أخرى، في وقت كان الحبيب يقاوم فيه بصبر المؤمن وثقة العبد في ربه الكريم عذاب وصلف كفار قريش، ومحاربتهم لدعوة الحق التي جاء بها بشيرا ونذيرا. وكانت القلة التي آمنت به تتحمل إيمانا وتصديقا أعتى صنوف الأذى، وأبشع أنواع التعذيب، والرسول يقول: اللهم إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات. هذا الإيمان الذي ملأ صدر نبي الله هون عليه كل تلك الأحداث التي لا يحتملها بشر.

فقد عليه الصلاة والسلام عمه أبا طالب، ظهيره ونظيره. أبوطالب الأخ الشقيق الوحيد لعبدالله والد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الذي رفض عرض قريش حين عرضوا عليه عمارة بن الوليد، وقالو له: يا أبا طالب خذه وادفع إلينا هذا الفتى الذي خالف دينك ودين آبائك فنقتله فإنما هو رجل برجل.. فقال أبوطالب: بئس ما تسومونني، تعطوني ابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! أبوطالب الذي أنشد حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

أبشر وقر بذلك الإسراء والمعراج

ثم ماتت خديجة بنت خويلد، أولى أمهات المؤمنين، وأم كل أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا إبراهيم ابن مارية القبطية. ماتت الزوجة والحبيبة والمعينة والسند، والتي كانت ـ رضي الله عنها ـ تستشعر بنبوة زوجها الأمين، فكانت تعتني ببيتها وأبنائها، وتسير قوافلها التجارية، وتوفر للنبي مؤونته في خلوته عندما كان يتعبد ويعتكف في غار حراء. ماتت أول من صدقه وآمن به عندما أنزل الله وحيه على النبي عليه الصلاة والسلام. ماتت أول من توضأ وصلى، ماتت الصابرة المصابرة في وجه قريش وتكذيبهم وبطشهم بالمسلمين. وحين دفع حصار قريش على بني هاشم وبني المطلب في شعب أبي طالب، التحقت الزوجة الوفية المخلصة بزوجها في الشعب، وآثرت أن تعاني ما عاناه وأهله من جوع ومرض مدة ثلاث سنين، وما لبثت رضي الله عنها بعد فك الحصار أن مرضت وتوفيت بعد وفاة عم النبي أبي طالب بثلاثة أيام في شهر رمضان.. يا الله، أي عام هذا؟ إنه فعلا كان عام الحزن.

فجاء إنعام الله وإكرامه لرسوله وحبيبه عليه الصلاة والسلام معجزة كبرى، تطييبا لنفسه الشريفة وتسرية لروحه الطاهرة العفيفة.

لقد كان الإسراء والمعراج خرقا لطبيعة الأشياء التي تعود عليها الناس، فقد كانوا يسافرون من مكة إلى الشام في شهر ويعودون في مثله، فأسري بالصادق الأمين في جزء من يوم، وكان أمرا خارقا وشيئا مذهلا اختص به المولى عز وجل رسوله الكريم وحده دون سواه من البشر، بل ومن الملائكة. وكان امتحانا للذين آمنوا بالله ورسوله، ليمحص الله ما في قلوبهم، وليختبر إيمانهم، ففاز أصحاب الإيمان القوي، وخاب ضعافه، لأن الله يريد أن يعد أصحاب النبي للقادم من الأحداث من هجرة وغزوات وفتح مبين، لتكون صفوفهم حينها قوية الشكيمة، راسخة العزيمة، صلبة الإرادة، سهلة القيادة الإلهية أتي أبدعت وصنعت كل ما في هذا الكون الفسيح، وليتأكد أهل الدين الخاتم وأصحاب النبي العظيم عليه صلوات ربي وملائكته وسلام الناس أجمعين أن الله هو القدير القادر على صنع ما يشاء، فهو الذي وضع قوانين التنفس والجاذبية والحركة والانتقال والسرعة. وهو وحده القادر على استبدالها بغيرها كيفما يشاء وحينما يشاء. سبحانه إذا قضى أمرا أنما يقول له كن فيكون.

فصعد صلى الله عليه وسلم يقطع مقاما بعد مقام، وحجابا إثر حجاب، حتى انتهى إلى مقام تخلف عنه الأمين جبريل عليه السلام، قائلا: يا محمد ما منا إلا له مقام معلوم، ولو دنوت أنملة لاحترقت.

وكما قال الله عز وجل «ثم دنا»، أي النبي «فتدلى»، أي سجد لله تعالى، ولذا قال عليه الصلاة والسلام «أقرب ما يكون العبد من ربه أن يكون ساجدا»، وحين سئل عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال: بفؤادي، ولم أره بعيني.. ولقد قرأت السيدة عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ حين سئلت ذات السؤال قول الله تعالى «لا تدركه الأبصار». وفي هذا تأكيد لما اعتبرته في مؤسسة اقرأ للسنة النبوية وتدقيق الأحاديث الشريفة، أو المعايير، وهو أن لا حديث صحيحا يخالف آية في كتاب الله.

وحين سئل أحد العارفين: لم أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس قبل أن يعرج به إلى السماء؟ فقال: لأن الله تعالى يعلم أن كفار قريش كانوا يكذبونه فيما يخبرهم به من أخبار السماء، فأراد جل في علاه أن يخبرهم عن الأرض التي قد بلغوها وشاهدوها، وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط، فلما أخبرهم النبي بأخبار بيت المقدس على ما هو عليه لم يمكنهم أن يكذبوه في أخبار السماء.

ومن ران على قلبه ولم يهده الله للإيمان وينعم عليه بالتصديق ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا له: صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة، فقال رضوان الله عليه «والله لئن قالها لقد صدق»، وكما قال إبراهيم عليه السلام لربه «ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي».

ذهب أبوبكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله أحدثت هؤلاء القوم إنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال الحبيب: نعم، قال فصفه لي، فإني قد جئته، فجعل عليه الصلاة والسلام يصفه لأبي بكر، ويقول أبوبكر كلما وصف له منه شيئا: صدقت، أشهد أنك رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وأنت يا أبا بكر الصديق.. وسماه بها. وهكذا دائما هي الأحداث العظيمة خير مصنع للعظماء الذين يكتبون التاريخ ويسطرون في صفحاته المجد والعزة.

وكم نحن في عالمنا الإسلامي اليوم نحتاج إلى التأمل والتدبر في كل ما أكرمنا الله به وأعزنا، من قرآن كريم وسنة مطهرة، وأحداث عظام. أرادها الله لنا لتكون بحق خير أمة أخرجت للناس.

وتبقى هذه الذكريات الخالدة المجيدة على الدوام في أمة الإسلام ساحة لقاء، تتوحد فيها القلوب والمشاعر، علها تجلي الصدأ وتزيل الغبار وتنير الطريق لأبناء هذه الأمة العزيزة بأن ما يوحدهم أكبر بكثير مما يفرقهم.