مغالطات في تصور الاستقلالية والاعتدال
السبت / 30 / رجب / 1437 هـ - 18:45 - السبت 7 مايو 2016 18:45
لا نزال مجتمعا حديث عهد بتعددية الرأي والنقد، والصراع فوق منصات الإعلام. لقد مرت عقود طويلة كان كل شيء مسيطرا عليه في إدارة حتى التفاصيل الصغيرة، تحولت السيطرة اليوم إلى كليات عامة، وتحررت التفاصيل التي تأتي على صورة مفاجآت متنوعة للرأي العام والجهات الرسمية عبر مقاطع وكلام في مواقع التواصل. لهذا فالتحول المحلي مكثف في زمن قصير بأقل من عقدين، ويجب أن يصاحبه ويتزامن معه خطاب نقدي عقلاني متحرر نوعا ما من تقلب موجات الرأي، والكتل الجماهيرية، ليس لأن أصحاب هذا النقد والمعالجة شخصيات متعالية على الواقع، أو أنهم خارج أي تصنيف وإنما لأن هذه المهمات تتطلب عدم الانغماس في يوميات هذا الجدل والمناكفات المتبادلة.
بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما أصبح يمكن تصور المشهد المحلي، والتمييز بين كل خمسة أعوام فيها، ومؤخرا حدثت متغيرات كبيرة أثرت على كثير من تقسيمات المشهد، وفقدت الكثير من التعبيرات والمصطلحات والتصنيفات القديمة معناها في بداية مرحلة الانترنت. كثير من المفاهيم والمصطلحات ليست متعالية على الواقع الذي تستعمل فيه، بما فيها مصطلحات تبلورت تاريخيا في الفكر العالمي المعاصر، وأصبح لها معنى يمكن تحديده، والوعي بمفهومه التاريخي، فعلماني وليبرالي وعقلاني وتنويري وإسلامي حركي وسلفي وغيرها في مجتمعنا مرتبطة بالمكان والظروف الاجتماعية والسياسية. مقابل ذلك تأتي تعبيرات أخرى بحاجة إلى ضبط مفهومها بالاستعمال المحلي، حتى لا تعطل وتشوه بمغالطات جدلية.
فمثلا مفهوم الاستقلالية والحياد، يكتب البعض عنوانا عريضا: وهم الاستقلالية، وبأنه لا يوجد حياد في الواقع ويستحيل وجوده، وكأنه اكتشف شيئا عظيما! مع أنها فكرة تقليدية في إطار الحديث عنها في سياق معالجات فلسفية، لكن في إطارنا اليومي والعملي ليس الحديث عن استقلال مطلق فوق بشري، ومتعال على كل المؤثرات. هناك درجات متعددة في الاستقلالية لدى كل شخص ومثقف وكاتب وداعية، وفقا لحالته وظرفه الواقعي يميزه عن غيره، فقد يوجد أكثر من شخص في مناصب متشابهة .. لكن كل واحد منهم يمارس استقلاليته بصورة أكبر من الآخر، بحيث يظهر رأيه أكثر تعبيرا عن نفسه مقابل مقارنة بمن هو في مجاله. فالشيخ صالح الفوزان من خلال استقراء طويل لآرائه الفقهية، وخطابه هو أكثر استقلالا من الشيخ عوض القرني، حتى وإن كان الفوزان في منصب رسمي والقرني خارجه، بغض النظر عن ماهية هذه الآراء ذاتها. وعبدالرحمن الراشد أكثر استقلالا من خالد المالك، وبعض رؤساء التحرير الآخرين في التعبير عن رأيه وتعليقه، بحيث تجد شخصية الراشد في مقالاته، ولا تجد خالد المالك المختفي في المنصب تماما وغيره كثيرون.
كثير من المثقفين تختلف طريقة تعبيره بين ما قبل المنصب وما بعده، والمغرد بتوتير تتغير استقلاليته كل ما زاد عدد متابعيه، أو حسب رغبته في استمالة جمهور معين! لهذا فمحاولة تصوير الاستقلالية بأنها شيء مستحيل أو هلامي، أو لا تقاس إلا بمعيار صفر أو مئة بالمئة، هي مغالطة من يفشل في إنتاج خطاب يعبر عن ذاته وهو في مكانه الحالي. وكذلك الحياد والموضوعية ليس الحديث في واقعنا عن معايير مطلقة فوق بشرية، فعمليا يمكن التمييز بسهولة بين مؤلف وآخر في معالجته لقضيته، ومدى تأثير حالته الاجتماعية عليه، وهل أنصف القضية التي عالجها وأضاف شيئا له قيمة يمكن البناء عليه.
أما مفهوم الاعتدال فهو ليس محصورا باتجاه معين، وإنما هي صفة شخصية للفرد في خطابه ومواقفه بغض النظر عن الاتجاه الفكري بالمحافظة أو عدمها. وقد يشوه بأنه رأي في المنطقة الرمادية أو لا طعم ولا لون ولا رائحة، وكأنه لا يوجد في الفضاء الفكري وثقافة العصر.. إلا طعم ورائحة ما يكتبه حزبه الحركي أو مجموعته وفق التصنيف السائد. ومن مظاهر تشويه هذا الخيار هو أن يصوره البعض بأنه محاولة لكسب جميع الأطراف. والواقع يؤكد اليوم أنه من أكثر الاختيارات كلفة وخسارة في سياق المنافع اليومية، فنتيجته خسارة كل الأطراف ذات الثقل الحالي، وكلفته أعلى من كلفة أي خيار آخر للوصول إلى منافع وفق شروط الفضاء المحلي. لقد أصبح من شروط تكوين العلاقات والانضمام لشلل والبروز فوق كتل جماهيرية معينة تسوق ما تقوله أن تتنازل عن رأيك وتصفق لآراء شعبوية، بمجاملات لا تنتهي على حساب صناعة رأيه الخاص، حتى في دائرة مؤسسة أو وزارة.
لقد تنازل كثيرون عن هذا الخيار منذ سنوات تحت ضغط الخسائر المستمرة والشعور بالعزلة وعدم جدوى العمل والكتابة بدون هذه التنازلات، وفقدت الساحة الكثير من الأسماء التي يمكن أن تسهم في تكوين شريحة من نخبة لها مصداقية، وترفع من مستوى الوعي بحقيقة مشكلاتنا الحضارية والتنموية. ومهما كانت الخسائر المحسوبة، فالمثقف والكاتب يجب أن يدرك دوره ووظيفته التاريخية.. حيث ستظل قيمته مع مرور الزمن في الكلمة والرأي الذي يحمله وهي مسؤولية وطنية وأمانة، وستكشف الأيام قيمة رأيه عندما يقدمه بعمق واحترام لأصول البحث والنقد.
alkhedr.a@makkahnp.com
بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما أصبح يمكن تصور المشهد المحلي، والتمييز بين كل خمسة أعوام فيها، ومؤخرا حدثت متغيرات كبيرة أثرت على كثير من تقسيمات المشهد، وفقدت الكثير من التعبيرات والمصطلحات والتصنيفات القديمة معناها في بداية مرحلة الانترنت. كثير من المفاهيم والمصطلحات ليست متعالية على الواقع الذي تستعمل فيه، بما فيها مصطلحات تبلورت تاريخيا في الفكر العالمي المعاصر، وأصبح لها معنى يمكن تحديده، والوعي بمفهومه التاريخي، فعلماني وليبرالي وعقلاني وتنويري وإسلامي حركي وسلفي وغيرها في مجتمعنا مرتبطة بالمكان والظروف الاجتماعية والسياسية. مقابل ذلك تأتي تعبيرات أخرى بحاجة إلى ضبط مفهومها بالاستعمال المحلي، حتى لا تعطل وتشوه بمغالطات جدلية.
فمثلا مفهوم الاستقلالية والحياد، يكتب البعض عنوانا عريضا: وهم الاستقلالية، وبأنه لا يوجد حياد في الواقع ويستحيل وجوده، وكأنه اكتشف شيئا عظيما! مع أنها فكرة تقليدية في إطار الحديث عنها في سياق معالجات فلسفية، لكن في إطارنا اليومي والعملي ليس الحديث عن استقلال مطلق فوق بشري، ومتعال على كل المؤثرات. هناك درجات متعددة في الاستقلالية لدى كل شخص ومثقف وكاتب وداعية، وفقا لحالته وظرفه الواقعي يميزه عن غيره، فقد يوجد أكثر من شخص في مناصب متشابهة .. لكن كل واحد منهم يمارس استقلاليته بصورة أكبر من الآخر، بحيث يظهر رأيه أكثر تعبيرا عن نفسه مقابل مقارنة بمن هو في مجاله. فالشيخ صالح الفوزان من خلال استقراء طويل لآرائه الفقهية، وخطابه هو أكثر استقلالا من الشيخ عوض القرني، حتى وإن كان الفوزان في منصب رسمي والقرني خارجه، بغض النظر عن ماهية هذه الآراء ذاتها. وعبدالرحمن الراشد أكثر استقلالا من خالد المالك، وبعض رؤساء التحرير الآخرين في التعبير عن رأيه وتعليقه، بحيث تجد شخصية الراشد في مقالاته، ولا تجد خالد المالك المختفي في المنصب تماما وغيره كثيرون.
كثير من المثقفين تختلف طريقة تعبيره بين ما قبل المنصب وما بعده، والمغرد بتوتير تتغير استقلاليته كل ما زاد عدد متابعيه، أو حسب رغبته في استمالة جمهور معين! لهذا فمحاولة تصوير الاستقلالية بأنها شيء مستحيل أو هلامي، أو لا تقاس إلا بمعيار صفر أو مئة بالمئة، هي مغالطة من يفشل في إنتاج خطاب يعبر عن ذاته وهو في مكانه الحالي. وكذلك الحياد والموضوعية ليس الحديث في واقعنا عن معايير مطلقة فوق بشرية، فعمليا يمكن التمييز بسهولة بين مؤلف وآخر في معالجته لقضيته، ومدى تأثير حالته الاجتماعية عليه، وهل أنصف القضية التي عالجها وأضاف شيئا له قيمة يمكن البناء عليه.
أما مفهوم الاعتدال فهو ليس محصورا باتجاه معين، وإنما هي صفة شخصية للفرد في خطابه ومواقفه بغض النظر عن الاتجاه الفكري بالمحافظة أو عدمها. وقد يشوه بأنه رأي في المنطقة الرمادية أو لا طعم ولا لون ولا رائحة، وكأنه لا يوجد في الفضاء الفكري وثقافة العصر.. إلا طعم ورائحة ما يكتبه حزبه الحركي أو مجموعته وفق التصنيف السائد. ومن مظاهر تشويه هذا الخيار هو أن يصوره البعض بأنه محاولة لكسب جميع الأطراف. والواقع يؤكد اليوم أنه من أكثر الاختيارات كلفة وخسارة في سياق المنافع اليومية، فنتيجته خسارة كل الأطراف ذات الثقل الحالي، وكلفته أعلى من كلفة أي خيار آخر للوصول إلى منافع وفق شروط الفضاء المحلي. لقد أصبح من شروط تكوين العلاقات والانضمام لشلل والبروز فوق كتل جماهيرية معينة تسوق ما تقوله أن تتنازل عن رأيك وتصفق لآراء شعبوية، بمجاملات لا تنتهي على حساب صناعة رأيه الخاص، حتى في دائرة مؤسسة أو وزارة.
لقد تنازل كثيرون عن هذا الخيار منذ سنوات تحت ضغط الخسائر المستمرة والشعور بالعزلة وعدم جدوى العمل والكتابة بدون هذه التنازلات، وفقدت الساحة الكثير من الأسماء التي يمكن أن تسهم في تكوين شريحة من نخبة لها مصداقية، وترفع من مستوى الوعي بحقيقة مشكلاتنا الحضارية والتنموية. ومهما كانت الخسائر المحسوبة، فالمثقف والكاتب يجب أن يدرك دوره ووظيفته التاريخية.. حيث ستظل قيمته مع مرور الزمن في الكلمة والرأي الذي يحمله وهي مسؤولية وطنية وأمانة، وستكشف الأيام قيمة رأيه عندما يقدمه بعمق واحترام لأصول البحث والنقد.
alkhedr.a@makkahnp.com