الرأي

1919 رقم هاتف مهم!

محمد الحاجي
المكان: شرطة المنصور، مكة المكرمة. التاريخ: العاشر من ربيع الأول 1426، الرائد خالد الشيباني يكشف عن قضية بالغة في القبح والسوداوية ألهبت الإعلام والوجدان الشعبي حين تحدّث عن تفاصيل مقتل الطفلة غصون بعد اعتداءات شرسة من والدها وزوجته. أخذت العدالة مجراها وتم تنفيذ حد الحرابة بالجناة. على مدى سنين، كانت غصون مرمى لأبشع أساليب العنف، ولم يتحرك أحد لهذه الفاجعة حتى توارى ذاك الجسد الملائكي تحت الثرى، وتوارت معه قضية يجب أن تبقى حيّـة، كي لا يموت أصدقاء غصون.

أصدقاء غصون هم 45 طفلا من كل 100 طفل في السعودية، يتعرضون لشكل من أشكال العنف الأسري يوميا، حسب تقرير الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان. بالتأكيد حالات العنف تتجاوز هذا الرقم بكثير، حيث يفضّل أغلبية الضحايا الصمت إما خوفا من الأسرة أو عجزا عن إيصال الصوت. وعندما نتحدث عن العنف، فنعني «أي فعل يلحق أضرارا جسدية ونفسية بليغة بمن هم دون الـ18 من العمر». لربما الكدمات والصفعات مكشوفة للعيان وقد تندمل مع الوقت، ولكن الأعباء التي يحملها الطفل معه بقية حياته هي الجانب الخفي من الحكايات.

في أطول دراسة من نوعها والمشهورة بـ ACE Study أو «تجارب الطفولة السيئة» يتم متابعة آلاف المشاركين لرصد تجارب التعنيف والضرر أثناء طفولتهم وكيف ينعكس ذلك على حياتهم لاحقا. الرصد يشمل التعنيف الجسدي، والنفسي، والجنسي، ويشمل حياة الطفل إذا كان أحد أفراد عائلته: يتعاطى المخدرات، أو لديه أمراض نفسية، أو مسجونا، أو إذا تعرّضت الأم للعنف.

النتائج، التي ما زالت تُنشر منذ 20 سنة وإلى يومنا هذا، تبيّن علاقة ترابط طردية بين (عدد) هذه التجارب أثناء الطفولة، وجودة حياة هذا الفرد في لاحق حياته حتى وإن وصل الخمسين والستين من العمر. فعلى سبيل المثال، كلما زاد عدد تجارب الطفولة السيئة، زادت احتمالية أن يكون الفرد مُدخَّنا، وزادت احتمالية إصابته بالسمنة وبالاكتئاب والسكّري والجلطات والعديد من العلل الصحية والنفسية مقارنة بأقرانه المشابهين له. هذه العوامل تعمل وفق الآلية الموجودة في الهرم المرفق.

ولربما أكثر الردود الشعبية التي نسمعها ضد أي طرح توعوي لمشاكل العنف والطفولة، هي: «في طفولتنا تعرّضنا لتجارب عنف سيئة وما زلنا بخير!» وهنا تأتي متلازمة الجهل المركب، عندما نجهل حقيقة أننا نجهل. يفترض حامل هذه الفكرة أنه «بخير» ولا يعرف أن أرطال السمنة بين جنبيه قد تعود لشتائم والده المستمرة في المرحلة الابتدائية، والتي أدخلته في إعصار نفسي دائم أثّر على هرمونات الجسد وعلى عادات الغذاء والحركة، حتى تمظهرت كل هذه الفوضى أخيرا في السمنة. كذلك، فإن الخطر المحدق جرّاء هذه الردود الواهية يكمن في أن القائل يرضى ضمنيا بالعنف، وقد يمارسه على أطفاله كذلك، لتستمر دائرة العنف. بل وقد تتنمّل لديه حاسة الشعور بالمسؤولية حين يتوجّب عليه التدخّل لإنقاذ أحدهم. ففي ذهنيته أن العنف «مقبول، وحدث لي وأنا بخير».

الطريق إلى الأمام يتوجّب تغييرا جذريا يحارب «منطقية العنف»، ويبدأ هذا التغيير بيد السياسي أولا. فأنظمة وقوانين حماية الطفل ما زالت في خطواتها البدائية، وما زالت تفتقر للفاعلية في أدائها. يقول عم غصون، إنه تقدّم بثلاث شكاوى لجمعية حقوق الإنسان ودار الرعاية الاجتماعية لإنقاذ غصون ولكن بلا جدوى. محاربة هذه الظاهرة المفزعة توجب تكاتفا سياسيا شعبيا، يرفع الوعي ويجرّم السلوك ويظهره بصورته الشيطانية وليس كموضوع للتندّر والاحتفاء كما حدث ذلك مؤخرا بعد تسرّب أحد المقاطع. نعم 8 من كل 10 سعوديين يعتقدون بأهمية وجود قوانين لحماية الطفل، ولكن أخشى أن يكون هؤلاء أول من يخرقون هذه القوانين إما بسلوكهم أو رضاهم ومباركتهم الضمنية للاعتداءات من حولهم. وعلى النطاق المؤسساتي، لا بد أن يتم إحياء هذه القضية لتصبح قضية جادة وليست حبيسة المقالات ومؤتمرات الترف الشكلية. ففي استطلاع رأي حديث من برنامج الأمن الوطني، تبيّن أن أقل الناس وعيا بظاهرة إيذاء الأطفال هم منسوبو المحاكم الشرعية ومنسوبو مدارس البنين. وهذا مُحبط حقيقة، إذا ما عرفنا الدور الهام الذي يستطيع القضاة والمدرّسون تأديته لكشف ومحاربة العنف الأسري.

وأنت أيها القارئ الكريم، عليك دور لا يُستهان به. فالكثير من حالات العنف تستمر بسبب «تأثير المتفرّج»، والذي ينص على أن في حال حدوث أمر يستوجب التدخل، يتكاسل كل طرف ظنا أن الآخرين سينقذون الموقف، أو ظنّا بأن الآخرين سيتحركون لو كان الموقف يستدعي ذلك. لا ينبغي أن يحدّد الكسالى معيارنا الأخلاقي، فنحن حماة هذا الطفل في الأرض، بسلوكنا معه وبتجاوبنا مع قضيته، وبالاتصال على 1919 لإنقاذه.

alhajji.m@makkahnp.com