الرأي

مشهد: نكاية في الصمت!

فهيد العديم
أحيانا تحتاج لمساحة أكبر من مقال لتقول الأشياء التي كُنت تؤجل قولها، أو الأشياء التي لا تستطيع قولها، ليس لأن في فمك ماء، بل لأن في فمك محيطا هادرا من الملوحة!

هذه فكرة مجنونة: في فمي محيط بكل ما يحمله من ملح وكائنات وحيوات متعددة، إن قلته فسيغرقني بالتأكيد، هل الكلمة بهذه الخطورة؟، لا أتذكر من هو القائل: (إن تقلها تمت، وإن لم تقلها تمت.. فقلها ومت)، لم أعد أتذكر قائلها، أو أين قرأتها، وهذا مؤشر جيد، من الجميل أن ننسى ونتخفف من حفظ أشياء نعتقد أنها جميلة، بل وتنازلت كثيرا عن الأفكار التي تثير بذهني الشغب والتساؤل، فمثلا أمس فقط أقنعت نفسي أن محمود درويش شاعر قضية عاقل، وحتى قصيدة (ريتا والبندقية) لا تحمل أي إيحاء عن التطبيع مثلا!

وما زلت أتجاهل تفاعل المثقفين الذين- فجأة- بعد وفاة الشاعر سعد بن جدلان اعترفوا بالشعر العامي، (وغردوا) بأبيات لم تكن له!، يصفونه بالشاعر العامي العظيم ويستشهدون بأبيات ليست له، يا إلهي! هؤلاء يستثمرون حتى الموت!

لا يهم.. المهم أن تستسيغ الفكرة المجنونة وتعقلنها: في فمك محيط يا سيدي، ابتعد قليلا عن المشهد.. أكثر.. حاول أن تجلس في الزاوية اليمنى بآخر ركن في المسرح، الآن من فمه ماء المحيط أمامك، يدخل.. يتحرك ببطء ولا مبالاة حتى يقف بمنتصف المسرح، لا يتكلم.. ربما هو مثلك منزعج من الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي تبدو غاية في النشاز والعبثية، فجأة -لعطل ربما- تتوقف الموسيقى اللعينة، لقد اختار المخرج العبقري أن تكون الذروة هي المشهد الأول، يشير الممثل -بصمت- للزاوية اليسرى، التفت الجمهور للبحث عن الشيء الذي يشير إليه.. تتساءل ببلاهة: هو لم يطلب منهم الالتفات!، تتصاعد موسيقى حادة جدا، وكأنها تعبث بطبلة أذنك، تصكّ فكيك لتجاهلها، يبدأ الممثل يخفض يده ببطء.. استمرت العملية دقائق.. هدوء لدرجة يخيّل لك أنك تستطيع أن تعد نبضات الجالس بجانبك.. بالفعل نبضات قلبه تتجاوز المعدل الطبيعي، تتساءل: هل كان يركض وهو جالس؟!، لكنك ما تزال موقنا أن العمل قريب من الذروة، تحبس أنفاسك، تشتم المخرج: لماذا لا يحرك الريموت ويلغي هذا العرض البطيء؟ يبدأ البطل بالنزول قليلا.. الآن يقف على ركبتيه، ترتفع يداه بمهل حتى تصل لمحاذاة منكبيه أو أقل قليلا.. يصرخ بقوة، وبشكل هستيري.. لكن الصوت لا يصل، لم يشك أحد ولو للحظة بأن هنالك عطلا في الصوت.. الجميع تفاعل في الصرخة وشعروا بالطوفان يبتلعهم.. كنت أتمنى أن أسألهم عن الشعور الأول للغياب!

في صباح اليوم التالي لم يكن هنالك غير مجموعة من الأطفال يجمعون الأسماك الصغيرة الملونة بفرح!

fheed.a@makkahnp.com