الرأي

جدة والحداثة.. الغذامي والميلاد الجديد

حسين بافقيه
لم يعرف الدكتور الغذامي نظريات النقد الحداثي وما بعد الحداثي عندما كان في بريطانيا، ولقد مر بنا أن أمرين كانا يشغلانه هناك: أولهما تحقيقه لكتاب «أدب الوزراء» لأحمد بن جعفر بن شاذان، وهو مادة بحثه في مرحلة الدكتوراه، وآخرهما تقصي أصول الشعر الحر في الشعر العربي القديم، حتى إذا ما آب إلى الوطن، سنة 1398= 1978، كانت نازك الملائكة، وكانت موسيقا الشعر ومشكلاته الموضوعين الأثيرين لديه، وإننا لنلقى لمسائل العروض وموسيقا الشعر أثرا في كتابه الأول «الخطيئة والتكفير»، وفي غير مؤلف من مؤلفاته، وعسى أن يظهر ذلك مقدار سطوتهما على تفكيره.

ولكنه كان مقدّرا له أن يشهد في مدينة جدة تحولا كبيرا انحرف به عما درج فيه من قبل. فما الذي وجده في عروس البحر الأحمر؟

مر بنا من قبل أن عبدالله الغذامي، الشابّ ذا الثلاثة والثلاثين عاما، ألفى نفسه في جامعة الملك عبدالعزيز ولا عمل يؤدّيه إلا أن يدرّس شيئا من النحو والصرف، ونتفا من تاريخ الأدب العربي، ومرّ بنا أنه أشفق على نفسه، وأَسِيَ على الدرجة العلمية العالية التي ظفر بها، ثم ها هو ذا لا يختلف عن مدرّسي اللغة العربية في المدارس الثانوية، إلا أن اسمه مسبوق بلقب «دكتور»!

لكن الجامعة التي لعله جفاها، حتى إنه ليفكر في التحوّل عنها، ولما يكد يستقر فيها - لم تكن كلها دروسا يسيرة يزجيها إلى طلابها في النحو والصرف، ولا نتفا موجزة من تاريخ الأدب العربي يسوقها إليهم، لكنها، مهما أتاحت له فسحة من الوقت كي يفرغ لبحوثه في العروض والقافية وموسيقا الشعر - كانت تدّخر ما سيؤذن بميلاد جديد له، وعساها كانت تخبّئ في ناحية منها ما سيأخذ به بعيدا عن نازك الملائكة وموسيقا الشعر، إلى «النقد الحداثي» و»ما بعد الحداثي»، وكأنما كانت سنوات القرن الرابع عشر الهجري التي شارفت على المغيب، قد وعدته بأن سيقبل على فجر جديد!

كان من زملاء الدكتور عبدالله الغذامي في قسم اللغة العربية أستاذ مصري شابّ، تخرج في كلية دار العلوم، وبعد أن ظفر منها بإجازة «الماجستير» في اللهجات، ابتعث إلى موسكو لدراسة الدكتوراه، حتى إذا آب إلى وطنه واطمأن به المقام، انحدر إلى مدينة جدة للتدريس في جامعتها، وكان هذا الأستاذ المصري الشاب هو الدكتور سعد مصلوح الذي أفردنا له، من قبل، حلقتين من هذه الفصول.

يغلب على الظن أن الألفة أحكمت رباطها بين الأستاذين الشابين، ولا أستبعد أن الغذامي ألفى في مصلوح الصديق والأنيس، يؤيد ذلك أن بين الرجلين مما يقرب أكثر مما يبعد، ولعل الغذامي الذي كان لا يزال مهموما بموسيقا الشعر الحر عند نازك الملائكة، ومشكلات الروي والقافية - سرّه أن مصلوحا عالج في أطروحة الدكتوراه موضوع «أصوات القافية»، لكنني أرجح، كذلك، أنه تسمّع منه إلى كلام جديد كل الجِدّة، لا يتصل بالعروض والقافية، ولا موسيقا الشعر، ولم يكن ذلك الكلام الجديد إلا لمحات عن «النقد الألسني»، و»علمية النقد»، و»علم الأسلوب»، وما يدرينا، فلعل حديثا بينهما اتّصل عن «الشكلانيين الروس»، ومصلوح أخبر بهم، وجعلت تلك الأحاديث تفعل فعلها في عقل الغذامي ووجدانه، فلما أحسّ من نفسه ميلا إلى ذلك المنهج، أنشأ يسأل ويستخبر ويستزيد ويستقصي.

وما قبل كان استنتاجا، لكنه أدنى إلى التاريخ، لو حقّقناه، ومما يقوّي هذا الاستنتاج ويعضده كلمات ساقهنّ الغذامي في كتابه «حكاية الحداثة»، جلا بهنّ شيئا من ذلك التاريخ، وذلك حين قال: «في البدء كان كل شيء في قمته، وكنت رئيسا لقسم الإعلام، ثم لقسم اللغة العربية، وفيهما بدأت في مشروع ندوة علمية، استمرت سنوات من 1979 إلى 1983، وكان معنا مجموعة من أهل التخصصات الحديثة مثل سعد مصلوح ويوسف نور عوض وحلمي خليل وجعفر هادي حسن، وهم من اللغة العربية، وكان معنا فاروق أبوزيد وعلي عجوة من الإعلام، وانضم بعد وقت أبوبكر باقادر وهاني نصري من الاجتماع، وبهم كانت تعقد ندوة علمية طرحت فيها قضايا النقد في الأسلوبية والشكلانية والألسنية العامة وقضايا الترجمة ونظريات القراءة».