معرفة

باحث يتناول علاقة الإنجليز بالدولة العثمانية في القرن السادس عشر

كتب السفير الإسباني في لندن برناردينو دي مندوزا رسالة إلى حكومة بلاده في مدريد عام 1579، يبلغها فيها بمغادرة سفن إنجليزية عدة إلى القسطنطينية تحمل شحنات من معادن الرصاص والقصدير.

وأشار إلى أن مصدر بعض هذه المعادن هو الأجراس والزينة التي تم تفكيكها من الكنائس خلال فترة «الإصلاح البروتستانتي»، وأن إنجلترا تنوي الاستفادة من ثمنها وفي نفس الوقت تكسب ود السلطان العثماني، وأن العثمانيين كانوا بحاجة ماسة إلى تلك المعادن لصنع الأسلحة، لأنهم في حالة حرب مع مملكة إسبانيا ومع قوى مسيحية أخرى.

الإنجليز والعثمانيون

هذه الحكاية التاريخية هي أحد الأمثلة الواضحة على نوعية العلاقات التي ربطت الدولتين الإنجليزية والعثمانية في عهد الملكة اليزابيث الأولى. ويقول الكاتب جيري بروتون في كتابه «جزيرة الشرق هذه» الصادر عن دار ألان لين، إن السبب الرئيسي لذلك هو أن ملك إسبانيا كان العدو اللدود للملكة اليزابيث الأولى وللسلطان العثماني في نفس الوقت، لذلك جاء التحالف الإنجليزي - العثماني على أساس مبدأ «عدو عدوي هو صديقي».

خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر تزايدت أعداد المسافرين والتجار والمغامرين المتنقلين بين إنجلترا والعالم الإسلامي، حاملين معهم أفكارا وبضائع جديدة، مما ساعد على تأسيس أشكال جديدة من التفاهم - وسوء التفاهم أحيانا - المتبادل بين الحضارتين.

التفاعل الثقافي

من الأمثلة الأخرى التي يتطرق إليها الكتاب عن التفاعل الثقافي بين الإمبراطورية العثمانية والدول الإسلامية الأخرى من جهة وإنجلترا من ناحية ثانية ما حدث في سبتمبر 1599، حيث دخل شاب إنجليزي كان يعمل حدادا، وهو موسيقي أيضا من وارينجتون اسمه توماس دالام، إلى قصر توبكابي في القسطنطينية، وبدأ يعزف على آلة أورغن موسيقية صنعها أمام أقوى حاكم في العالم في تلك الفترة: السلطان العثماني محمد الثالث.

وكانت الآلة من ضمن حمولة قارب مليء بالهدايا الثمينة التي أرسلتها اليزابيث للسلطان للمساعدة على الحفاظ على التحالف الذي كان مضى على قيامه حوالي عقدين من الزمن، وكان أداء دالام الموسيقي رائعا، وأحبه السلطان لدرجة أنه كافأه بحقيبة مليئة بالذهب.

امتداد الهيمنة

يقول بروتون في كتابه إنه بحلول نهاية عهد اليزابيث، سافر آلاف من رعاياها إلى العالم الإسلامي، حيث كان بعضهم يعمل في التجارة وبعضهم استقر في مناطق ممتدة من مملكة المغرب والإمبراطورية العثمانية حتى بلاد فارس، وكثير منهم اعتنق الإسلام.

وبحلول بداية القرن السابع عشر، كان التحالف بين إنجلترا والسلطنة العثمانية وبلاد فارس والمغرب ضد الهيمنة الإسبانية، وامتد إلى مسافة 4300 ميل من مراكش مرورا بالقسطنطينية وصولا إلى أصفهان.

الحرمان الكنسي

وبعد انفصال الملك هنري الثامن عن الفاتيكان وتأسيس الكنيسة الإنجليزية، ومن ثم تطبيق البابا بيوس الخامس عقوبة «الحرمان الكنسي» على الملكة في 1970، وجدت إنجلترا نفسها معزولة كدولة مارقة وسط دول أوروبا الكاثوليكية، لذلك كانت بحاجة إلى أصدقاء أقوياء في مناطق استراتيجية.

وفي منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، لم يكن هناك سوى العالم الإسلامي، لذلك ارتبطت إنجلترا مع بلاد المسلمين بعلاقات تجارية وسياسية قوية على مدى نصف قرن، ولم تخل تلك العلاقات من بعض المؤامرات والتجسس من الطرفين في كثير من الأحيان.

تاجر الحرير

من بين أشهر التجار الإنجليز الذين تعاملوا مع العالم الإسلامي في تلك الفترة، والذين يتحدث عنهم بروتون في هذا الكتاب بالتفصيل، تاجر الحرير البارز أنتوني جنكينسون الذي التقى مع السلطان العثماني سليمان القانوني وشاه إيران تاهماسب في ستينيات القرن السادس عشر؛ والتاجر وليام هاربورن من نورفوك الذي أصبح أول سفير إنجليزي في البلاط العثماني؛ والمغامر أنتوني شيرلي الذي قضى فترة طويلة في بلاط الشاه عباس الأول الصفوي في عام 1600.

ذلك الوعي حول الإسلام الذي جلبه أولئك المواطنون الإنجليز معهم إلى بلادهم وجد طريقه إلى عدد من الأعمال الثقافية والأدبية العظيمة في تلك الفترة، بما في ذلك مسرحية كريستوفر مارلو الشهيرة «تامبورلين» ومسرحيات عدة للكاتب وليام شكسبير من بينها «تاجر البندقية» و»عطيل».

يبين كتاب «جزيرة الشرق هذه» أن علاقات إنجلترا مع العالم الإسلامي كانت أكثر شمولا وودية مما يعتقده الكثيرون، وأن لتلك العلاقات آثارا كبيرة على المشهد السياسي والتجاري والمحلي في إنجلترا في عهد الملكة اليزابيث الأولى.

البروفيسور جيري بروتون أكاديمي وباحث يعمل أستاذا في دراسات عصر النهضة في جامعة كوين ماري في لندن. له عدة برامج تلفزيونية، وهو ناقد تاريخي معروف. له عدة مؤلفات من بينها «سوق عصر النهضة» و«تاريخ العالم في 12 خريطة» الذي ترجم إلى أكثر من عشر لغات عالمية.