الرأي

رسالة إلى سيدي القاضي

محمد الحاجي
لا أعلم بشيء يجسّد قُصر نظر الإنسان وحب الثأر فيه مثل فكرة السجون. أفلاطون وصحبه «الأفاضل» يحملون وِزر هذه الخطيئة عندما اخترعوا السجن كوسيلة لـ«تأديب» الخارجين عن القانون. ولأنّ البشر كُسالى بطبعهم، فلقد توارثت الأنظمة والحكومات تبنّي مفهوم السجن ظنًا منهم أنّ تشييد هذه الخراسانات وحشر المجرمين فيها سيؤدي إلى إصلاح المجتمع وإيقاف الجريمة. لسوء الحظ، لم تكن السجون يومًا فكرة حسنة ولم تكن وسيلة فعّالة لردع الإنسان، بل على النقيض، أصبحت مرتعًا لتفريخ الجريمة في دائرة شريرة مستمرة لا تنقطع.

في النظر لمفهوم السجن كوسيلة عقاب، لن يصعب علينا إحصائيًا تسجيل التكاليف الباهظة أخلاقيًا واجتماعيًا وماديًا. فعندما يتم الزجّ بأحدهم في إحدى الزنازين، ما يحدثُ حقيقةً هو تدمير جذري وأبدي لهذا الفرد وأسرته، وخلق بؤرة إضافية في سلسلة الإجرام. كل هذا وغاية الردع المنشودة لا تتحقق.

لاستكشاف فاعلية السجن كوسيلة عقاب، هناك ما يُعرف في علم الجريمة بـ«نسبة العَود» والتي تعكس عدد السجناء الذين عادوا واقترفوا جريمة أخرى بعد تنفيذ العقاب عليهم للجريمة الأولى. ولأن العلوم الاجتماعية تختلف في نتائجها حسب كل مجتمع، كان مهمًا في هذا البحث الاستدلال بإحصائيات السجون في المجتمع السعودي والعربي أولًا قبل اللجوء للدراسات العالمية. حسب الإحصائيات المتاحة من وزارة الداخلية السعودية، فإن من كل 100 سجينة في الرياض، 42 منهن عدن وارتكبن جريمة أخرى بعد انتهاء المحكومية الأولى. ووفق بحثٍ منشور من جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، فإن لكل سجينين في السجون المصرية، ثمة سجين سيعود إلى زنزانته. أما عالميًا، ففي مسح إحصائي واسع من إدارة الأمن الكندية شمل آلاف السجناء، لم يكن ثمّة ربط بين السجن ـ مهما بلغت مدّته، وبين ردع هؤلاء المساجين عن ارتكاب المزيد من الجرائم. بل على العكس تمامًا، كلما طالت مدّة السجن، زادت نسبة العود للجريمة. أي أن السجن أصبحَ عاملًا مساعدًا لارتكاب جرائم أخرى. وفي مقارنة بين الولايات الأمريكية التي قلّلت سجن مواطنيها، انخفضت الجرائم بمستوى أكبر مقارنةً بالولايات التي ما زالت تمارس الحبس بالمستوى الاعتيادي. نعم هي ليست علاقة سببية ولكنها ارتباطية تسترعي التقصي والانتباه. لا أعتقد أن هذه الأرقام مفاجئة إذا ما أدركنا بيئة السجن السامة وتأثيرها الكارثي على نفسية الفرد. داخل السجن، يقضي المرء وقته ضمن شبكة أفراد يشتركون في الميول الخارجة عن القانون، مما يزيد من احتمالية التمرن والتمرّس الإجرامي حسب نظرية «الاختلاط التفاضلي».

أما خارج السجن، فتبدأ متلازمة ما بعد الحبس وتلتف حول عنق السجين سلسلة العقاب الاجتماعي. فوفقا لـ(إدوين ليمرت) في نظريته الوصم Labeling Theory فإن انطباع المجتمع السيئ وطريقة تعامله الدونية مع السجين السابق تحفر صفة الإجرام فيه وتجعله منبوذًا اجتماعيًا مما يرفع من نزعة النقمة والانحراف حتى تصبح شخصية الناقم هي المسيطرة، فيثور الفرد ويجنح لاسترداد كرامته المهدورة. في الحقيقة، السجن عقاب أبدي ليس للمجرم فقط، بل لعائلته ومستقبله تحت ما يسمى بـ«صحيفة السوابق». في دراسة ميدانية قام بها باحثو جامعة نايف، فإن الأغلبية الساحقة من المشاركين في الاستبيان رفضوا مصاهرة السجين السابق، ورفضوا أن يشتركوا مع السجين في أي عمل أو تجارة حتى وإنْ كانت هذه الشراكة ستحقّق مكاسب مادية لهم، معلّلين ذلك بفقدان الثقة والخشية من الارتباط بذاك المجرم. بل حتى القطاع العام السعودي يساهم في ظاهرة «النبذ» هذه، حيث عبّر 86% من السجناء الذين قضوا محكوميتهم أنهم يواجهون صعوبات وتحديات إضافية للحصول على وظيفة في القطاع العام.

أما عائلة السجين فهي الأخرى تنسحب تلقائيا إلى دائرة العقاب. ولذا فإن «أشد تهديد على سلامة وعافية الطفل يكمن في حبس أحد والديه» وفقًا لبيان العديد من المنظمات الحقوقية. التفكّك الأسري والمصاعب الاقتصادية والحرمان الاجتماعي هي تكاليف تقع على أكتاف عائلة السجين، وتخلق بيئة محفزّة للسلوك الإجرامي بين أفراد هذه العائلة المشوّهة. لربما يقفز تساؤل عن البدائل الممكنة لعقاب الجانحين والمجرمين. هذا سؤال مشروع حتمًا. ومن حسن الحظ أن لدينا الكثير من النماذج المحلية والعالمية المشرقة. ففي أحكامه على متحرشين وسارقين ومتعاطين، أصدر قاضي مكة المكرمة الشيخ محمد آل عبدالكريم عقوبات تنظيف المرافق العامة وتعلم الكتابة والقراءة والعمل لأربعين ساعة في مجمع طبي. هذا التوجه البديل ما زال يخطو خطوات خجولة في القضاء السعودي رغم توصيات المجلس الأعلى للسجون قبل سنوات طويلة. عالميًا، أعلن مدير مصلحة السجون السويدية إغلاق 4 سجون إضافية وذلك لعدم الحاجة إليها، وفي سؤاله عن سبب ذلك، أجاب أنهم استطاعوا تقليل السجناء عن طريق تبديل عقوبة السجن بالخدمة الاجتماعية، وبتأهيل السجناء تأهيلًا طبيًا واجتماعيًا ونفسيًا، خاصة أن أغلبية السجناء محكومون في قضايا مخدرات (47% في السعودية) وقضايا عنف وسرقة.

بهذه البدائل يتحوّل العقاب إلى عملية إصلاح وتمكين تمنع العودة للجريمة. بكل تأكيد هذه الحلول لا تنطبق على الجناة الذين يمثّلون خطرًا على أنفسهم وعلى الآخرين كالقتلة، ففي حبس هؤلاء حفظ لأمن المجتمع، وهم قلّة على أية حال. أما في الجنح الأخرى، فالعقوبة لا ينبغي أن تكون تدميرًا للفرد، بل تعويقًا لحركته ونزعًا لبعض الامتيازات حتى يؤدي المطالب أو يتم تنفيذ الحد، وذلك يتحقق بالـترسيم كما يسمّيه الفقهاء (كالإقامة الجبرية أو التنقّل المحدود وتقييد الحركة). هذا التوجّه الإصلاحي استوعبته الكثير من الدول للخلاص من معضلة السجون ولقطع دائرة الإجرام المتوالدة من الحبس، وينبغي أن يكون أكثر شيوعًا لدينا. أرفض السجن لأنه مدرسةٌ للجريمة ومعسكر لتفريخ الجانحين، وينافي الغاية المطلوبة منه للوصول إلى مجتمعٍ أكثر أمنًا وسلاما. مستقبلًا، أعتقد أن الحديث ينبغي أن يأخذ منحى أكثر جذريةً وذلك بمعالجة الدوافع المسبّبة للجريمة في المقام الأول. الجريمة جزء من التجربة البشرية ولن تختفي ما عاش الإنسان، ولكن نستطيع تحجيمها بإشاعة الحقوق والعدالة الاجتماعية وتحسين الظروف المعيشية والحد من البطالة والجهل، وهذا أُس الإصلاح!