الرأي

تحدي المياه.. وخطورة التراجع عنه

عبدالعزيز الخضر
كان ولا يزال أكبر تحد سيواجه المجتمع السعودي في المستقبل هو الماء في هذه الصحراء، وإذا كان النفط أخفى عمق وطبيعة المشكلة المستقبلية عند أكثر من جيل، فالواقع أن شح المياه حقيقة كبرى في كل مناطقنا السعودية. ولهذا كان اللجوء المتزايد لمحطات التحلية بكلفتها العالية إنتاجا وتوزيعا في مساحات شاسعة، مع التزايد المستمر في السكان، والمرشح قريبا للوصول إلى مناطق الأربعين والخمسين مليونا بعد عقود قليلة! هذه التحديات وغيرها تجعل مجرد التكفير بتفاصيل الأزمة المستقبلية شبحا مخيفا.

لقد فشلت كل المواعظ والإرشادات بالمحافظة على هذه الثروة، وإحياء السلوك المعتدل في استهلاك المياه من مختلف شرائح المجتمع، ولم يظهر ما يوحي بتطور هذا الوعي مهما أنفق من حملات دعائية، فبدون إحساس المواطن بحقيقة التكلفة والمشاركة فيها مباشرة من دخله الشهري لن يفهم الرسالة. ولهذا فمسألة رفع تعرفة استهلاك المياه بالسعودية كانت وما زالت مسألة وقت، ولها بعد استراتيجي يجب على الدولة أن تتخذ فيه قرارات حاسمة ومصيرية.

لكن لسوء التقدير فقد اختير له التوقيت الأسوأ، فكل النصائح والتوعية بضرورة ترشيد استهلاك المياه، والحديث بأن مثل هذه القرارات هي ضرورة لكل الأجيال. كل هذا لن يسمع هذه الفترة جيدا، وبدلا من أن ينقل الإحساس بالتكلفة الشعور الاجتماعي، وحديث المجالس إلى حكاية عن الثروة المائية، وخطورتها على مستقبل وجودنا، ووجود الأجيال اللاحقة، وبأنها مسؤولية تاريخية، أصبح الكلام بلغة متشنجة في كل أدوات التواصل، والإعلام وكثير من اللقاءات.. حيث أغرقت في تفاصيل خارج حقيقة الأزمة الوطنية التي سنصطدم بها يوما ما. ومع سوء التوقيت.. فلن تستطيع لوم هؤلاء من كل أطياف المجتمع ونخبه على هذا التشكي، ووضعه في سياق مسارات تتحدث عن رفع تكاليف أشياء أخرى، وما يصاحبها من تذمر طبيعي. لهذا سيبدو الحديث عن الوعي المائي عند الأجيال ترفا، ووعظا ليس وقته. مشكلة فواتير المياه الملتهبة الآن ليست بذاتها.. وإنما في مصاحبتها لفواتير أخرى ينتظرها المواطن بالصيف القريب.

لقد انشغل الإعلام بالأشياء المثيرة حول فواتير معينة، وأخطاء حول فواتير ظهرت بعشرات الآلاف، كأخطاء تطبيقية ستحل مع الوقت لكل حالة بمفردها، وترك رؤية المشكلة الحقيقية. من الأفضل ألا يخلط البعض بين تكاليف المياه ويقارنها بأي تكاليف أخرى، بما فيها تصريح معالي الوزير ومقارنته بفاتورة الجوال، فهذا مضر بالرسالة الرئيسة لرفع التكلفة. فالدخول في مقارنات سلع مختلفة بضرورتها وتقدير كل أسرة وفرد لها يشوش على القضية الرئيسة. للماء خصوصية عالية جدا.. فمهما حاولت الأسر الفقيرة والمتوسطة التوفير فيه، فهناك أرقام استهلاكية لا بد منها، وسترهق متوسط الحال، وأيضا الكهرباء في الصيف هناك حد أدنى لا يمكن النزول عنه بسبب التكييف، فهي حاجات ضرورية، وليست اختيارية، وستكون منهكة لميزانية الأسرة الشهرية متوسطة الدخل فكيف بالفقيرة، عندما تزامنت مع تكاليف أخرى.

ومع كل هذا فإن أي تراجع عن هذا القرار هذا اليوم سيكون أكثر كلفة، وأسوأ من خطأ سوء توقيت وتنفيذ القرار، فالتراجع سيفقد صدمة الوعي الأولية بقيمة هذه السلعة وأهميتها، وحتى فكرة التدرج طالما أنها لم تتخذ منذ البداية، فالتراجع الآن سيعطل أهم رسالة للوعي الشعبي. وتأييد استمرار التنفيذ لا يلغي مناقشة الكثير من التفاصيل والأخطاء. وإذا كان هناك تراجع للتخفيف عن المواطن فليكن في فواتير وتكاليف أشياء أخرى وليس الماء. إن أي تراجع سيفقد المواطن معه الإحساس بحقيقة الأزمة الوطنية.. فهو يجب أن يدرك بأن قضية المياه قضية مستقلة عن كل القضايا الوطنية الأخرى، وذات خصوصية عالية، فقد يأتي اليوم الذي لا تستطيع الدولة تأمينه بسهولة.

هناك العديد من الملاحظات التي يجب أن تناقش بوضوح. عند النظر في توزيع الشرائح، سنجد أنه ابتكار ضار، وتوزيعه غير منصف، فالشريح الأولى الأقل من 15 مترا مكعبا لا قيمة لها، ويكاد يستحيل عمليا تحقيقه عند أكثر الأسر السعودية. ولهذا فهو مجرد رقم غير عملي. تأتي المشكلة الحقيقية والعلمية ما بين الشريحة الثانية والثالثة والرابعة.. فهي المنطقة الرقمية الظالمة للكثيرين، فاستهلاك 30 مترا مكعبا شهريا يجعلك في منطقة سعرية مثل 16 مترا مكعبا، وبالمقابل استهلاك 31 مترا مكعبا يجعلك مثل سعر 45 مترا مكعبا، و46 مكعبا يجعلك في منطقة أسعار الـ60 مترا مكعبا.

هذه النقلات السعرية غير سليمة، وسيحدث فيها ظلم في التسعير، وتضرر على عملية الترشيد نفسها، فالسعر الموحد هو أكثر عدالة، أو يجب إعادة النظر في أرقام هذه الشرائح التي فيها إجحاف سعري كبير.. ويصعب على المواطن ضبطه عمليا.

يشير البعض إلى أرقام متوسط استهلاك الفرد في العالم، ووضع مقارنات دون وعي بتفاصيل، وطبيعة هذه الأرقام، وظروف كل مجتمع وحقيقتها، وهذا يتضمن مغالطات عديدة يمكن تناولها في مكان آخر. ما يهم الوزارة الآن .. تكثيف الوعي بأساليب الترشيد، للوصول إلى رقم معدل استهلاكي معقول للفرد، بحيث يحقق الهدف المنشود من عملية الترشيد الإجبارية برفع، فالمشكلة المتوقعة أن المواطن قد يتكيف مع الغلاء طويلا، ويستمر بالهدر المائي مع بقاء التذمر السلبي، وخلطها مع تكاليف الحياة الأخرى!

alkhedr.a@makkahnp.com