الرأي

رجال الطرب الحجازي

صالح عبدالله بوقري
التقيت به صدفة في سماء تويتر الزرقاء مغردا في رقة وعفوية، كنت يومها أعد لمحاضرة الكابتن سامي يحيى رفه العائد من رحلته حول العالم (رحلة الامتنان) بطائرته الصغيرة محققا حلمه بعد تقاعده. ‏دعوته للمحاضرة وسرني أن قبل الدعوة وأضاف أنه يعرف والد الكابتن سامي ويذكر دكانه لبيع التحف في مكة المكرمة والذي تعلم على يده العزف على الكمان.

أدركت لحظتها أني أمام إنسان مختلف وفنان مميز واستمر التقارب بيننا وبعدها حكيت عنه لصديقي الدكتور سعيد السريحي والذي أثنى على مكانة الأستاذ الشيخ عبدالرحمن محمد حمدان اللهبي وطلب مني إبلاغه برغبتنا في زيارته تأكيدا لمكانة الرجل عنده وأهميته الأدبية، ‏الأمر الذي زاد شوقي لمقابلته التي أراد الله أن تكون في بيته بجده بمعية عدد من الأصدقاء المشتركين حضر منهم خمسة وغاب السادس أكرمنا في بيته أيما إكرام.. ‏منها أن أهداني الأستاذ عبدالرحمن اللهبي كتابه النادر الرائع (رجال الطرب الحجازي في الثمانين سنة الأخيرة من القرن العشرين الذي كانت قراءته عندي سياحة ممتعة مع أساطين الطرب ومؤسسيه في الطائف ومدن أخرى في الحجاز.

‏كتاب انفرد بأسلوب يعكس شخصية الكاتب ونمط تفكيره وحلو حديثه كان يصور الوقائع التي عاشها وعاشها معه جيل حمل على عاتقه مسؤولية المحافظة على التراث الذي كاد أن يضيع الكثير من تاريخه، جيل أدركنا الكثير منهم معه ولكن لم نكن في قربه لهم فهو (ابن الكار) كما يقال، جيل رسم البدايات.

‏في سرده الجذاب الممتع قسم الأستاذ اللهبي كتابه خمسا وثلاثين حلقة أوقف كل حلقة على تاريخ عدد من أوائل المطربين والعازفين أو الملحنين، وكانت مقدمة الكتاب بقلم الأستاذ الشاعر الكبير علي الدميني، بالإضافة إلى الأستاذ محمود الحمصي الذي جاور المؤلف في جدة لعقد من السنين، وكان متخصصا في اللغة العربية.

‏استوقفني في الكتاب الإحساس المرهف للمؤلف والذاكرة الغنية بالتفاصيل الدقيقة المدهشة والتي نقلت بدقة وحيادية ما كان عيه حال المجتمع في أفراحه وأتراحه وتراحمه، ‏وأجمل من ذلك كله حرص أهل الفن والطرب على علاقتهم بالله ومحافظتهم على صلاتهم وقرآنهم محافظة تعكس نقاءهم وطهر سريرتهم.

‏وفي تاريخه لمدرسة الموسيقى التي أسسها الجيش السعودي بقيادة الموسيقار طارق عبدالحكيم يرحمه الله الذي ابتعث لدراسة الموسيقى في مصر، كان للفترة التي قضاها في مصر الأثر الكبير في وضع لبنات الفن في الحجاز حتى أصبح تاريخ الفن يحدد بما قبل طارق وما بعده كأنه العلامة الفارقة بين مرحلتين، وتأبى صراحة اللهبي في تقييمه للمرحلة إلا أن تؤكد أن طارقا فرط في مسؤوليته في المحافظة على الجانب الأهم وسلك الطريق السهل يرحمه الله رحمة واسعة ويسكنه فسيح جناته.

‏‏ويحلق بنا اللهبي إلى آفاق ما بعد (البيه) طارق عبدالحكيم مع القامات الفنية التي اشتهرت من أهمها عبدالله محمد ثم طلال مداح يرحمهما الله وبعدهما محمد عبده وطلال سلامة وعبدالمجيد عبدالله.

‏وأخيرا فإن الأستاذ عبدالرحمن اللهبي من مواليد مكة المكرمة في 10 محرم 1364هـ كان آخر عمل له سكرتير عام المؤسسة العامة للصناعات الحربية وتقاعد عام 1419هـ، ‏أحب الموسيقى ودرس العزف على القانون والكمان وانصرف عنها منذ أواسط السبعينيات الميلادية.

‏متعه الله بالصحة والعافية وجزاه الله خيرا على ما قام به تجاه هذا الفن الذي أرخ له بحيادية وتجرد لتبقى أسماء أهل الطرب في الحجاز مضيئة وقد كاد الزمن يطويها.