الرأي

قصف داعش بالكونكورد

هادي فقيهي
أثناء مشاهدة فيلم وثائقي عن الحرب العالمية الثانية يستعرض تضحيات الطيارين الانتحارين اليابانيين الذين كانوا يهاجمون القوات البحرية الأمريكية بطائراتهم بعد نفاد أسلحتهم سأل الطفل والده: إذا كانوا انتحاريين فلماذا يرتدون خوذات الرأس الواقية؟!

إذا وجدت نفسك في قبضة طفل لا يمل تكرار السؤال «لماذا» فستدرك أن ما يجعل أسئلة الأطفال مثيرة ومزعجة في الوقت ذاته عدم اعترافهم أو تقبلهم للطريقة التي يتكون فيها المحيط من حولهم. وقدرتنا كبالغين على التصالح مع العالم كما نعيشه لا تنبع من امتلاكنا لفهم أفضل من طفل في السادسة من عمره، وإنما تكمن في تآلفنا مع ما اعتدناه وخسارتنا للدهشة التي تجعلنا نستيقظ كل صباح كـ«أليس في بلاد العجائب».

كطفل لم ترق أسئلتي إلى البحث عن نشأة الوجود أو غزو المخلوقات الفضائية فكل شيء في محيطي بدا رتيبا ومعتادا باستثناء إصرار والدتي على إعداد الملوخية التي لم يكن يأكلها أحد في بيتنا. ومع ذلك ظل هذا الطبق يزف إلى مائدة الطعام ويغادرها ممتلئا حتى ظننت أن وجوده طقس لا بد أن نؤديه لتحل في بيتنا البركة. ولكن حين سألت أمي عن إعدادها له كان جوابها أبسط من كل تكهناتي إذ قالت: أبوك اعتاد شراءها ومن العبث أن نتركها حتى تتلف.

تلك الإجابة تلخص ما يطلق عليه في مجال الاستثمار بـ«أثر الكونكورد» أو مغالطة التكلفة الغارقة والذي يشير إلى الاستمرار في مشروع ما ليس بسبب عوائده المتوقعة وإنما بسبب الجهد والمال الذي دفع فيه والذي يجعل التخلي عنه بعد «كل هذا التعب» أمرا صعبا. وجاءت التسمية من إصرار الحكومتين البريطانية والفرنسية خلال سبعينيات القرن الفائت على مواصلة بناء وتشغيل طائرة كونكورد فائقة السرعة، رغم أن دراسات الجدوى حينها أظهرت أن العوائد التي سيتم تحصليها من تشغيل الطائرة لن تغطي تكلفة صناعتها. وسواء كان الأمر يتعلق بطائرة تقطع الرحلة من لندن إلى نيويورك في ظرف 4 ساعات فقط أو بمائدة طعام في قرية شرقي أحد المسارحة في جازان، فإن التفكير الاقتصادي المنطقي ينص على أن قرارات المستقبل يجب أن تبنى على عوائد المستقبل فقط ولا شأن لما تم دفعه أو فعله سابقا بما يجب فعله لاحقا.

ورغم أن معظم النقاش الدائر حول «أثر الكونكورد» ينبع من تراث الاقتصاد والاستثمار، فإنه يفسر سلوك كثير من الحكومات في اتخاذ قرارات الحرب والسلم. فعلى سبيل المثال كانت الحجة التي أوردها مؤيدو الحرب في فيتنام بعد امتدادها لسنوات دون نتيجة على الأرض أن تخلي الولايات المتحدة عن تحقيق هدفها في فيتنام يعني هدر آلاف الأرواح وملايين الدولارات التي كلفتها الحرب آنذاك. وهي الحجة التي كررتها إدارة بوش الابن بعد أن تحولت الحرب على العراق إلى صراع أهلي وطائفي أنهى مساعي بناء حكومة ديموقراطية. وقد استغل الرئيس الأمريكي باراك أوباما مغالطة التكلفة الغارقة أثناء حملته الانتخابية في عام 2007 لنقد سياسة بوش في العراق مؤكدا أن إدارة بوش لا تريد الانسحاب من العراق ليس بسبب إيمانها بالقدرة على كسب الحرب وإنما بسبب تخوفها من أن يتصور الشعب أن تضحيات أبنائهم ذهبت عبثا.

وفي سياسته الحالية لمواجهة تنظيم داعش يصر أوباما بعد كل عملية ينفذها التنظيم كتلك التي شهدتها بلجيكا خلال الأسبوع الفائت على أن الولايات المتحدة لن تجعل من الحرب على الإرهاب مشروع «كونكورد» آخر يتم التضحية فيه بالمزيد من الجنود من أجل الانتقام لضحايا عمليات داعش. بل يذهب مستشاروه ومؤيدوه إلى التأكيد على أن الصراع على الأرض هو ما تتمناه داعش وتدعو إليه وأن الاستجابة لهذه الدعوة هو انتصار للتنظيم وليس دحرا له.

ولكن ما يختفي خلف سطح هذه الحجة التي تبدو «منطقية» للوهلة الأولى أن من مصلحة الطرف الأضعف إيهام الخصم القوي أن محاولة القضاء عليه ستكلف جهدا ومالا لا يستحقه الهدف المنشود. وهذه هي الاستراتيجية التي استخدمها الشيوعيون في شمال فيتنام ضد الولايات المتحدة لإجبارها على إنهاء الحرب، حيث كانت رسالتهم إلى الشارع الأمريكي أن النصر لن يتم دون خسائر طائلة تجعل التضحية أعلى ثمنا من النتيجة.

وهذا التباين في قراءة تكلفة الحرب يجعل الدول كما يذكر أستاذ الفلسفة في جامعة برينستون توماس كيلي تنقسم في مواجهتها للإرهاب إلى مجموعة تتبع مبدأ المنفعة فتؤثر زيادة الإجراءات الأمنية على اقتلاع مصدر الإرهاب تخوفا من تكلفته، ومجموعة تتبع مبدأ الشرف فتجعل من سقوط فرد واحد مبررا للدفع بجيش كامل.

وعلى خلاف ردة فعل أسلافه بعد اعتداء بيرل هاربر وهجمات 11 سبتمبر، يبني أوباما سياساته على مبادئ السلوك العقلاني فيميل إلى المنفعة على حساب الشرف مؤمنا أن داعش مجرد ضجيج على الهامش لا يشكل خطرا وجوديا على شعبه. ولكن ماذا لو كانت قيادة داعش تتبع ذات الحيل السلوكية فتجعل تخوف الغرب من التورط في بناء «كونكورد» أخرى حيلة تضمن بقاءها وسلامتها من اكتساح أرضي؟ وماذا لو كانت دعوتها إلى الحرب مجرد تكنيك منسوخ من كتاب «علم النفس العكسي»؟

ففي صراعات الجماعات والدول لطالما كانت عقلانية طرف ما دافعا للخصم الأكثر «جنونا» للتصرف بشكل غير متوقع اعتقادا أن ردة الفعل العقلانية لن تتجاوز إطار مضاعفة المنفعة. فاليابان حين حاولت تدمير أسطول البحرية الأمريكية في بيرل هاربر كانت تأمل استخدام هذا الهجوم كمدخل إلى إلزام البيت الأبيض بمعاهدة سلام اعتقادا بأن أمريكا ستحافظ على عزلتها الدولية. وهتلر حين منح رئيس الوزراء البريطاني نافيل تشامبيرلين في عام 1938 معاهدة سلام على الورق ثم أرسل جيشه إلى بولندا كان يراهن على أنه المجنون الوحيد في الساحة الدولية.

h.faqihi@makkahnp.com