الرأي

النسخة المفقودة من (الهوية)!

وحيد الغامدي
حين انتقل الدكتور الوابلي رحمه الله إلى جوار ربه، خرج أحد الوعاظ الذين يستضافون في المحاضرات والمخيمات الدعوية ليشمت في مصاب أهل المتوفى في تغريدة له كانت حديث الأسبوع، وبكلام مبتذل ولا يمت لأخلاق العرب وأصالتهم بصلة، والمشكلة أنه ليس كلاما خاصا به ومبتورا عن السياق العام للتيار الذي لا يرى سوى ذاته محورا لهذا الكون، بل جاراه ووافقه في فحشه عدد لا بأس به ممن يحملون الحرف (د) ممن ابتلي بهم هذا الزمن القاتم.

ما نشاهده من مخرجات الأخلاق البالغة السوء يجعلنا نقف موقف الحيرة والدهشة تجاه هذه (الردة) الإنسانية والقيمية التي صنعتها منظومة الوعظ العشوائي التي تتخبط في ترتيب الأولويات منطقيا ودينيا أيضا. ولكن لا بد من عدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهر معاصرة، بل يجب القفز إلى التاريخ لنكتشف هل لهذه الأخلاقيات أصل قد تمت صناعته وتمريره للأجيال أم لا؟

الآن.. وبهدوء تام سنقلب بعض صفحات التاريخ مما يمكن أن تسمح به مساحة هذا المقال، منطلقين من فكرة بالغة الإلحاح، وهي وجوب النظر والتصحيح والنقد الذاتي الحر والشجاع لتراثنا الذي يحكم نظرتنا اليوم للحياة وللعالم من حولنا. نحن إن لم نفعل ذلك فإن الأجيال القادمة لن تكون مضطرة للوفاء لهذه الصفحات، ولكن لن يكون البديل أمامها سوى النقيض بالكلية، فاختصارا للوقت وللنتائج وللوصول إلى أقل قدر ممكن من الخسائر مع الزمن أطرح ما بين يدي.

في كتابه (السنة) نقل عبدالله بن أحمد بن حنبل في الأثر الذي حمل الرقم 257 قوله: حدثني عبدة بن عبدالرحيم، سمعت معرفا يقول: دخل أبوحنيفة على الأعمش يعوده فقال: يا أبا محمد لولا أن يثقل عليك مجيئي لعدتك في كل يوم، فقال الأعمش: من هذا ؟ قالوا: أبوحنيفة، فقال: (يا ابن النعمان أنت والله ثقيل في منزلك فكيف إذا جئتني؟) اهـ. انظر السنة لعبدالله بن أحمد ص190. تحقيق محمد سعيد القحطاني.

هذا النص ونصوص أخرى قد تلقي بالضوء على المشكلة الأخلاقية تاريخيا، وأن مبدأ الاختلاف في الآراء كان إلى تلك الدرجة من الحدية التي يتخلى فيها الرجل عن واجب الضيافة العربية التي أقل ما فيها استقبال الضيف بالبشاشة، لا بتلك الفظاظة وسوء الاستقبال!

في زمن لاحق ستقام أمسية أو ملتقى أو مناسبة ما في منطقة من مناطقنا التي اشتهرت بالكرم والشهامة، وسيخرج من أحفاد أولئك الرجال الذين كانوا يديرون خصوماتهم بشرف ورجولة من يعترض على قدوم بعض الضيوف للمنطقة ويطالب بعدم استضافتهم لأن لهم آراء مختلفة، في سلوك أقل ما يقال فيه إنه مسخ فعلي للأرض والإنسان والهوية (الحقيقية) والقيم والدم العربي. فما الذي يجري؟ إنها تلك التربية العابرة للأزمان والقرون.

من هنا ننادي بإعادة صياغة التصورات، ووضع اليد على موضع الجرح الأول الذي يمكنه أن ينبعث في كل حقبة زمنية، والتحلي بالشجاعة اللازمة في تناول تلك الكراهية المبثوثة في بطون الكتب والتي لم يعد لها اليوم أي مبرر سوى التشريع لبعض تلك البذاءات وتسويغ سلوكياتها اعتقادا بأنها دين سيرضى الله به حين يتحدث باسمه بتلك الطريقة، ولهذا فإن أولئك الذين أشرت إليهم أنهم يحملون الحرف (د) وتوافقوا مع ذلك الواعظ البذيء، لم يفعلوا شيئا سوى الاستشهاد بالآثار والنصوص التي يجيدون لي أعناقها وإسقاطها على المختلفين معهم منطلقين من نرجسية التعالي الصلف المؤمن بالذات وامتلاكها للحقيقة إلى أقصى نقطة متخيلة. تماما هو الشيء نفسه الذي صنعه (أهل الحديث الأوائل) مع أبي حنيفة برغم فقهه وعلمه وورعه، ولكن -فقط- بسبب قوله بالرأي والاجتهاد، وعدم اعترافه ببعض الأحاديث، وآراء أخرى تخالفهم، فقد تم تكفيره وإهانته وضربه على وجهه أيضا، وكل ذلك في المصدر الذي أشرت إليه.