مجلس «العم معيض» أهم من خيزرانته
الاثنين / 19 / جمادى الآخرة / 1437 هـ - 22:00 - الاثنين 28 مارس 2016 22:00
خلال الأسبوع الماضي عاش «العم معيض» السيناريو الذي لا يتمنى أي منا أن يكون أحد أبطاله، وهو أن تتحول تصرفاتك في بيتك ومساحتك الخاصة إلى موضوع نقاش وطني يرمي فيه كل من هب ودب برأيه تأييدا أو شجبا. فقبل الانحياز إلى مؤيد أو معارض ربما يجدر بنا أن نسأل عن جدوى تحويل حياة عائلة إلى تلفزيون واقع يستغله الجميع لتمرير أحكامهم التربوية والأخلاقية على الآخرين وطريقتهم في التعامل مع أطفالهم، والرسالة التي توصلها هذا التفاعل إلى بقية الأطفال عن مفهوم الخصوصية وأسرار البيوت.
ولكن إذا كان الدخول المفاجئ للعم «معيض» هو ما شد انتباه الناس، فإني أجد محاولة أطفال نقل مباراة كرة قدم في مجلس صغير عبر اليوتيوب أمرا جديرا بالاهتمام يثبت لنا أن المساحة وليست الخيزارنة هي أكبر تحد يواجه الآباء في تربية أطفالهم في هذا العصر. فأزمة الإسكان، وتمدد المدن، وازدحام المدارس، وسوء التخطيط المعماري الذي يحيل الأحياء إلى غابات اسمنتية كلها عوامل تقلص من حجم المساحة المتاحة أمام الأطفال والأسرة لممارسة أنشطتهم وبناء علاقتهم مع أقرانهم وتؤدي إلى إصابتهم بما يعرف باضطراب العزلة عن الطبيعة (nature deficit disorder). وهذه العزلة تأتي نتيجة تقلص الوقت الذي نقضيه في المساحات الطبيعية أو الصناعية المفتوحة على حساب الانغماس في استخدام التقنية وممارسة الأنشطة الداخلية. وقد أثبتت الدراسات في مجال السيكولوجية البيئية والمعمارية أن هذه العزلة تؤدي إلى جملة من الاضطرابات السلوكية لدى الأطفال وحتى البالغين ومنها: صعوبات التركيز، وقلة الاعتماد على الحواس، والاضطرابات الجسدية العاطفية. ففي دراسة فحصت تأثير الوقت الذي يقضيه أطفال المدارس في المساحات الخضراء (الحدائق) والمساحات الزرقاء (الشطآن) في مدينة برشلونة بإسبانيا على السلوك، وجد الباحثون أن الأطفال الذين يقضون وقتا أطولا في المساحات المفتوحة يملكون علاقات أفضل مع أقرانهم، ويعدون أكثر اجتماعية وأقل عرضة لاضطراب فرط الحركة وقلة الانتباه. كما أن التعرض إلى الطبيعة والمساحات الحرة بعد جهد ذهني كبير يحسن بشكل ملحوظ من قدرتنا على استرجاع المعلومات التي نتلقاها خلال دراستنا أو عملنا.
وأثر محدودية المساحة لا يتوقف عند العزلة عن الطبيعة فحسب، بل إن نصيب الفرد من المساحة الكلية للمسكن أو المدرسة تتحكم في العبء الذهني الذي يواجهه هذا الفرد والقيود المفروضة على سلوكياته. ففي مقارنة بين سلوكيات نزلاء عمارة تتكون من 3 طوابق ونزلاء عمارة تتكون من 14 طابقا، وجد الباحثون أنه كلما زادت مساحة الفرد زاد نشاطه الاجتماعي وشعوره بأهميته في بيئته وقوة تأثيره على الآخرين لأن التعامل مع عدد أكبر من الناس في ذات المحيط يتطلب تركيزا أكبر ويضعف من استقلالية الفرد في تصرفاته أو تفكيره.
وقد يجنح البعض إلى الاعتقاد أن توفر التقنية في أيدي الأطفال قد ألغت دور المساحة بغض النظر عما إذا كان الطفل يعيش في شقة بمساحة 85 مترا أو في قرية. ولكن الدراسات أظهرت أن الأطفال الذي يعيشون في محيط مفتوح يكونون أكثر نشاطا من غيرهم وأقل التصاقا بشاشات أجهزتهم. وهذه بحد ذاتها فائدة كافية إذا ما اعتبرنا الآثار السلوكية السلبية للتقنية في أيدي الأطفال. فالهيئة الجسدية التي يتطلبها استخدام الهواتف أو الأجهزة اللوحية تولد تأثيرات سلوكية على أمزجتنا وطريقة تفكيرنا وهو ما يطلق عليه الآن بتأثير «الرقبة النصية» كناية عن انحناء رقابنا إلى الأسفل أثناء الكتابة على الهاتف. وهذا الانحناء الذي ارتبط قبل ظهور الهواتف بالحزن والاكتئاب ما زال يقود إلى ذات التأثير، ففي دراسة طلب الباحثون من المشاركين في مقابلة وظيفية النظر إلى الأعلى أو الأسفل أثناء إجابة الأسئلة. وكانت النتيجة أن الذين نظروا إلى الأسفل كما نفعل حين نكتب تغريدة أظهروا ثقة أقل في أنفسهم، ومزاجا أسوأ وقلقا أكبر. كما أن التحليلات اللغوية تشير إلى أن الأشخاص الذي يحنون رقابهم باستمرار يكونون أكثر سلبية في اختيار عباراتهم. كما يقود التحدب والانحناء إلى ذاكرة أضعف وقدرة أقل على استرجاع المعلومات. ولك أن تفكر في أثر هذه العوامل مجتمعة على طفل أو حتى بالغ يعيش في مساحة محدودة وكل خياراته هي التحديق في سقف منخفض أو الالتصاق بشاشة ايباد.
وسر الأثر السلوكي للمساحة يكمن في أن المسافة الحقيقية التي تفصل بيننا وبين ما نراه تترجم إلى مسافة نفسية تغير من تصورنا لما نراه. فالأشياء التي تقع في مجال الرؤية السفلي تكون أقرب إلى العين وبالتالي نستطيع فحص تفاصيلها بوضوح مما يحد من قدرتنا على منحها أي معنى رمزي أو تخيلها بشكل مغاير لما هي عليه. أما الأشياء التي تقع في مجال الرؤية العلوية فتكون أبعد - كالسحب أو الأفق أو النجوم- وبالتالي أقل وضوحا مما يتطلب تفعلينا لوظائف ذهنية أكبر من أجل منحها تصورا أو معنى فنعمد إلى تفسيرها بطريقة رمزية وتخيلية أكبر. وربما لا عجب أننا نميل إلى النظر إلى الأعلى بشكل تلقائي حين نحاول التفكير في شيء ما. ولكن في عصر نعيش فيه ونعمل في مربعات وأمام شاشات تقلص من مسافة كل شيء أخشى بأنا نفقد جزءا من تفكيرنا بشكل حالم ومفتوح!
ملاحظة:
كلما زاد طول الشخص زادت فرصته في تسلم المناصب القيادية. ربما لأننا ننظر إلى الأعلى حين نخاطب من هو أطول منا!
ولكن إذا كان الدخول المفاجئ للعم «معيض» هو ما شد انتباه الناس، فإني أجد محاولة أطفال نقل مباراة كرة قدم في مجلس صغير عبر اليوتيوب أمرا جديرا بالاهتمام يثبت لنا أن المساحة وليست الخيزارنة هي أكبر تحد يواجه الآباء في تربية أطفالهم في هذا العصر. فأزمة الإسكان، وتمدد المدن، وازدحام المدارس، وسوء التخطيط المعماري الذي يحيل الأحياء إلى غابات اسمنتية كلها عوامل تقلص من حجم المساحة المتاحة أمام الأطفال والأسرة لممارسة أنشطتهم وبناء علاقتهم مع أقرانهم وتؤدي إلى إصابتهم بما يعرف باضطراب العزلة عن الطبيعة (nature deficit disorder). وهذه العزلة تأتي نتيجة تقلص الوقت الذي نقضيه في المساحات الطبيعية أو الصناعية المفتوحة على حساب الانغماس في استخدام التقنية وممارسة الأنشطة الداخلية. وقد أثبتت الدراسات في مجال السيكولوجية البيئية والمعمارية أن هذه العزلة تؤدي إلى جملة من الاضطرابات السلوكية لدى الأطفال وحتى البالغين ومنها: صعوبات التركيز، وقلة الاعتماد على الحواس، والاضطرابات الجسدية العاطفية. ففي دراسة فحصت تأثير الوقت الذي يقضيه أطفال المدارس في المساحات الخضراء (الحدائق) والمساحات الزرقاء (الشطآن) في مدينة برشلونة بإسبانيا على السلوك، وجد الباحثون أن الأطفال الذين يقضون وقتا أطولا في المساحات المفتوحة يملكون علاقات أفضل مع أقرانهم، ويعدون أكثر اجتماعية وأقل عرضة لاضطراب فرط الحركة وقلة الانتباه. كما أن التعرض إلى الطبيعة والمساحات الحرة بعد جهد ذهني كبير يحسن بشكل ملحوظ من قدرتنا على استرجاع المعلومات التي نتلقاها خلال دراستنا أو عملنا.
وأثر محدودية المساحة لا يتوقف عند العزلة عن الطبيعة فحسب، بل إن نصيب الفرد من المساحة الكلية للمسكن أو المدرسة تتحكم في العبء الذهني الذي يواجهه هذا الفرد والقيود المفروضة على سلوكياته. ففي مقارنة بين سلوكيات نزلاء عمارة تتكون من 3 طوابق ونزلاء عمارة تتكون من 14 طابقا، وجد الباحثون أنه كلما زادت مساحة الفرد زاد نشاطه الاجتماعي وشعوره بأهميته في بيئته وقوة تأثيره على الآخرين لأن التعامل مع عدد أكبر من الناس في ذات المحيط يتطلب تركيزا أكبر ويضعف من استقلالية الفرد في تصرفاته أو تفكيره.
وقد يجنح البعض إلى الاعتقاد أن توفر التقنية في أيدي الأطفال قد ألغت دور المساحة بغض النظر عما إذا كان الطفل يعيش في شقة بمساحة 85 مترا أو في قرية. ولكن الدراسات أظهرت أن الأطفال الذي يعيشون في محيط مفتوح يكونون أكثر نشاطا من غيرهم وأقل التصاقا بشاشات أجهزتهم. وهذه بحد ذاتها فائدة كافية إذا ما اعتبرنا الآثار السلوكية السلبية للتقنية في أيدي الأطفال. فالهيئة الجسدية التي يتطلبها استخدام الهواتف أو الأجهزة اللوحية تولد تأثيرات سلوكية على أمزجتنا وطريقة تفكيرنا وهو ما يطلق عليه الآن بتأثير «الرقبة النصية» كناية عن انحناء رقابنا إلى الأسفل أثناء الكتابة على الهاتف. وهذا الانحناء الذي ارتبط قبل ظهور الهواتف بالحزن والاكتئاب ما زال يقود إلى ذات التأثير، ففي دراسة طلب الباحثون من المشاركين في مقابلة وظيفية النظر إلى الأعلى أو الأسفل أثناء إجابة الأسئلة. وكانت النتيجة أن الذين نظروا إلى الأسفل كما نفعل حين نكتب تغريدة أظهروا ثقة أقل في أنفسهم، ومزاجا أسوأ وقلقا أكبر. كما أن التحليلات اللغوية تشير إلى أن الأشخاص الذي يحنون رقابهم باستمرار يكونون أكثر سلبية في اختيار عباراتهم. كما يقود التحدب والانحناء إلى ذاكرة أضعف وقدرة أقل على استرجاع المعلومات. ولك أن تفكر في أثر هذه العوامل مجتمعة على طفل أو حتى بالغ يعيش في مساحة محدودة وكل خياراته هي التحديق في سقف منخفض أو الالتصاق بشاشة ايباد.
وسر الأثر السلوكي للمساحة يكمن في أن المسافة الحقيقية التي تفصل بيننا وبين ما نراه تترجم إلى مسافة نفسية تغير من تصورنا لما نراه. فالأشياء التي تقع في مجال الرؤية السفلي تكون أقرب إلى العين وبالتالي نستطيع فحص تفاصيلها بوضوح مما يحد من قدرتنا على منحها أي معنى رمزي أو تخيلها بشكل مغاير لما هي عليه. أما الأشياء التي تقع في مجال الرؤية العلوية فتكون أبعد - كالسحب أو الأفق أو النجوم- وبالتالي أقل وضوحا مما يتطلب تفعلينا لوظائف ذهنية أكبر من أجل منحها تصورا أو معنى فنعمد إلى تفسيرها بطريقة رمزية وتخيلية أكبر. وربما لا عجب أننا نميل إلى النظر إلى الأعلى بشكل تلقائي حين نحاول التفكير في شيء ما. ولكن في عصر نعيش فيه ونعمل في مربعات وأمام شاشات تقلص من مسافة كل شيء أخشى بأنا نفقد جزءا من تفكيرنا بشكل حالم ومفتوح!
ملاحظة:
كلما زاد طول الشخص زادت فرصته في تسلم المناصب القيادية. ربما لأننا ننظر إلى الأعلى حين نخاطب من هو أطول منا!