البلد

الشؤون الاجتماعية من الرعوية إلى التنموية

وزارة ووزير

في شهر فبراير من العام الماضي 2015 وبعد تسعة عشر يوما من تعيين الدكتور ماجد القصبي وزيرا للشؤون الاجتماعية، اتجهت لورشة عمل دعيت لها في فندق الفورسيزونز بالرياض، وموضوعها الرئيسي «تطوير الضمان الاجتماعي». وحين بدأت المداخلات كان الوزير الحاضر في المنتصف يستوقف من يريد أن يداخل ويطلب منه أن يعرف بنفسه. يستمع لكل مداخلة بإنصات، وصبر شديد يحسد عليه أحيانا. تحدثوا خلال الورشة عن المملكة والنمو، والتحديات الاجتماعية وعن الضمان والرعاية والتنمية. ولما داخل الوزير، لم أسمع الكلام المعتاد في ورش العمل التي نذهب إليها عادة عندما تتساقط علينا الهموم والمشكلات والقضايا ونهرب إليها لنحتمي من عائلات الزمن. تحدث سيد الورشة دون تحفظ، وضع يده على الجرح وشرح كيف أن مستويات الفقر واتجاهاته صارت في صميم المناقشات التي تدور حول التنمية وأن الاعتماد في تخفيف وطأة الفقر على التأثير التدريجي للنمو لم يعد كافيا وأننا بحاجة حقيقية لاستراتيجية واضحة تتصدى للعوامل البنيوية للفقر وأن النهج التنموي يجب أن يحل مكان العمل الرعوي والخيري قصير الأمد، دشن شعار المرحلة (الانتقال من الرعوية إلى التنموية ومن الضمان إلى الأمان ومن الاحتياج إلى الإنتاج)، وذلك لإحداث تغيير حقيقي.

عرج الوزير في حديثه عن القطاع الثالث (NGOs) وعن مساهماته المتواضعة في الناتج المحلي (,29) مقابل (,90) في المغرب، و(8,1) في كندا على سبيل المثال، وعلى افتراض أنه يجب عليه كقطاع حقيقي أن يشغل مجالات حيوية وشبكة خدمية واسعة تشمل التعليم، مثل جامعة برتيش كولومبيا والصحة مثل مايو كلينك والفنون والبحث العلمي ورعاية الطفولة والإسكان الاجتماعي مثل SLH البريطانية. خرجت وبهجتي محفوفة ببعض الأسئلة الضرورية التي لا بد من طرحها. كان الوزير كاريزميا. الكاريزما كما يقول سمير عطا الله موهبة تصقل لا علم يدرس. كان يتحدث على أمل شديد، لكن الندوب كانت كبيرة، والوزارة من سنين مثل صخرة سيزيف، بطل رواية ألبير كامو، كلما تدحرجت إثر اجتهادات شخصية موقتة إلى أعلى السطح سقطت للأسفل، ظل سيزيف على هذا الحال حتى غدا رمزا للمثابرة، تلك المثابرة التي لا تفضي إلى شيء ملموس.

ورثت الشؤون الاجتماعية إرثا ضخما من الملفات. تأسس الضمان الاجتماعي عام 1395 وكانت هناك برامج مبكرة لمساعدة للمسنين والعجزة منذ عام 1381، من الإنصاف القول إن تلك البرامج شهدت خلال مسيرة التنمية في البلد أكثر من حركة تطويرية، لكن وبعد مضي أكثر من 40 عاما أي في العام المنصرم، بيت الوزارة الداخلي كان مثقلا بـ17 ألف موظف، في ثلاث وكالات، و115 مكتبا ضمانيا، و159 دارا ومؤسسة، و38 مركز تنمية. وهناك إدارتان منفصلتان لتقنية المعلومات -عبر على هذا الوضع أكثر من وزير بأكثر من فترة وزارية!- كانت الوزارة تدير عملها على «التساهيل»، رغم الميزانيات الضخمة، وكان عدد مستفيديها يقارب الثلاثة ملايين، يصرف لهم ما يقارب الخمسة وثلاثين مليار ريال سنويا. لكن الآفاق كانت مسدودة، أغلقت الوزارة أبواب التنمية واحتفلت سنوات بالصرف. لم تأخذ بالمفهوم التنموي والوقائي، ولم تتجاوز المنهج العلاجي الجزئي، لم تجزع من أخطار التزايد في الأرقام، ولم تعلق الجرس إثر تزايد الأسر المهجورة والمطلقات وحالات الإعاقة والعنف الأسري وجحافل الفقراء. ودون أن تثير نقاشا جادا عن البطالة مع وزارة العمل، والأهم من ذلك دون وجود رؤية مؤسسية لإخراج الأسر المحتاجة إلى أسر مكتفية ومنتجة اقتصاديا، مما نتج عنه إرهاق للبنية الأساسية لخدمات الضمان والرعاية الاجتماعية. ولم يكن يحتاج لمن يقود دفة الشؤون الاجتماعية في تلك الفترات حل معادلة يونغ لابلاس حتى يدرك أن الحال يحتاج لعناية الله ومبضع جراح ماهر.

من الخارج كان البنك الدولي قد أعلن في العام 2013، أن نسبة المواطنين السعوديين الذين دخلهم أقل من خط الفقر 12.7%، ولا أعتقد أن هناك دراسة حول خط الفقر في المملكة «اللهم» دراسة مؤسسة الملك خالد الخيرية، لكن هناك انعداما واضحا في التوافق بين البرامج الاجتماعية، كما أن الدعم المالي لم يربط بأي من شروط الاستحقاق التنموي، غير ذلك كانت هناك سلسلة من المشاكل المتعلقة بالاستهداف الحقيقي للفئات الفقيرة حيث كان فقط 40% من الدعم المالي الذي تقدمه وزارة الشؤون الاجتماعية يصل إلى 40% من السكان الأكثر فقرا -وهذا الرقم الأخير حسب تقرير البنك الدولي- ناهيك عن ضعف في الأبحاث والدراسات التي كان يفترض أن تقدم ما يليق بحجم الفجوات، وصلت بعض الأجيال إلى الجيل الرابع تقريبا، وهي تعيش على الضمان الاجتماعي في تمثيل واضح لحضارة الفقر «Intergenerational Transmission Poverty» أو فقر الأجيال، فقر في الدخل وفقر في القدرات.

وسط تلك الوحشة التي كانت تلف وزارة الشؤون الاجتماعية وفي حراك كبير متسارع، أعلن وزيرها الجديد أنهم بنوا الخطوط العريضة لتوجهاتها الاستراتيجية، دشنت الوزارة لاحقا نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية ولائحته التنفيذية بعد أن طرحته للتصويت ووضعت إطارا لحوكمة عمل القطاع الخيري والتكامل بين وكالة التنمية الاجتماعية وكل الجهات الأهلية والمؤسسات والجمعيات.

عزز الدكتور القصبي شراكات الوزارات لتطوير نماذج للرعاية الاجتماعية أكثر استهدافا. بالطبع لا توجد فلسفة متكاملة يمكن أن تشكل الأرضية التي تستند إليها السياسات والبرامج التي يتطلبها مفهوم الرعاية الاجتماعية ككل، لكن الحس بظروف المجتمع مطلوب في كل الأحوال. أوقف الوزير الهدر ودمج إدارتي تقنية المعلومات ومركزي البيانات، وعين على رأسها كفاءات وطنية شابة، كانت أول ثمار عملهم، الربط الكترونيا عبر قناة التكامل الحكومية في برنامج التعاملات الالكترونية الحكومية يسر وغيره، مع قرابة 20 جهة حكومية للتحقق من البيانات، لتسقط الوزارة نحو 107 آلاف حالة ما بين موظفين رسميين في سجلات الدولة، وما بين آلاف الأثرياء الذين يملكون صكوكا عقارية تقدر بالملايين، ثم تسقط في المرحلة الثانية 71 ألف حالة تلاعب إضافية كانوا يتلقون مخصصات الضمان الاجتماعي. في عملية تحسين نوعية للاستحقاق الضماني، وتوجيه الدعم وأموال الزكاة للمستحقين. علق الكاتب الأستاذ عبدالعزيز السويد حول ذلك في مقال له في صحيفة الحياة بتاريخ 12 مارس الماضي وقال إن الشؤون الاجتماعية يجب ألا تجعل المواطنين يتحولون إلى سائقين يجلبون الوثائق الحكومية للتأكد من أهليتهم للضمان. وقال وإذا دققنا في أوضاع الحالات وخاصة النساء من المحتاجات نعلم أن هذا أمر صعب. ثم أشار إلى أن الوزارة يجب أن تسعى للبحث عن «المتعففين»، لا أن يبحث المحتاج عنها ويبذل ماء وجهه في وسائل التواصل الاجتماعي وعلى صفحات الصحف. وهذا هو مربط الفرس وهو شعار الضمان المعطل الذي فعله فريق الوزارة الجديد بأتمتة عملية الاستحقاق، وإذا تكاملت البيانات من الطبيعي أن تسعى الوزارة إلى العمل بشكل (Proactive) للبحث عن المتعففين.

ذهب الوزير القصبي لقبة الشورى، وزع ركائز وأهداف وزارته قبل ذهابه، أقر خلال الجلسة بهدوء تجاوزه بعض الصلاحيات من أجل تسريع ظهور نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية. ثمة فارق جوهري في مثل هذه المواقف، يوضحه الدكتور زياد الدريس بقوله «السياسة هي فن الممكن، والدبلوماسية هي فن غير الممكن». توقف الوزير أثناء إجابته على الأسئلة، عند سؤال ذي علاقة بالخصخصة. وأنا لا أفهم كيف يمكن أن تجدي الخصخصة في تقديم خدمات الشؤون الاجتماعية، لكني آمل أن تكون ضمن إطار يقدم منافع وخدمات راقية، وهذا التوجه بدأت بوادره في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي حين بدأت أزمة في مجال الرعاية الاجتماعية وحول مفهوم دولة الرعاية في أوروبا، كانت ألمانيا تعاني، وهي التي أصدرت أول تشريع خاص بالضمان الاجتماعي على يد بسمارك عام 1883. ظهرت بوادر الأزمة بداية في بريطانيا وألمانيا، وامتدت لتشمل أكثر البلدان الصناعية الأوروبية، وشملت الدول الإسكندنافية، السويد والدنمارك وفنلندا، كانت السويد التي بلغ فيها الإنفاق الاجتماعي ما يقرب من 22% من الناتج المحلي الإجمالي وذلك في العام 1975، أحد أهم الدول التي تأثرت بتلك الأزمة، وكان لها انعكاسات خطيرة على مستوى النمو الاقتصادي، وعلى تطور دولة الرعاية، زاد عدد المسنين وعدد العاطلين عن العمل، وزادت المخاوف، ارتفعت الأصوات التي تنادي بتقليل مستوى الإنفاق الاجتماعي، وكثرت الأصوات المنادية بأن دولة الرعاية لم تتمكن من تحقيق أهدافها، وصار الحديث السائد في الأدبيات الاجتماعية عن البديل، لكننا هنا في دولة 67% من مواطنيها شباب دون الثلاثين، الأسباب الهيكلية للفقر والبطالة والإعاقة والعنف فيها يمكن حصرها والتقليل منها بوجود إطار وطني متطور للحماية الاجتماعية وتطوير لسياساتها وخلطة أفضل بين مختلف برامج المساعدات وبرامج التنمية لتكون ملائمة للمشكلات الاجتماعية في البلد.

نجح الوزير الدبلوماسي في جعل وزارة الشؤون الاجتماعية خلية نحل، أعاد توظيف كواردها في أماكن مختلفة، حفز جديتهم وألحقهم بتدريب متخصص، دشن مركز نماء لإدارة المشاريع وتطوير خدمات الوزارة، ومركز متطورا لتلقي بلاغات العنف الأسري، حوكم عملية الاستحقاق، قص شريط المركز الوطني للدراسات والبحوث الاجتماعية، حدد فريق الوزارة وللمرة الأولى العوامل الهيكلية المشكلة للفقر في المملكة بالأرقام والتوزيع الجغرافي ما بين احتياج أساسي للسكن وافتقار للتعليم وغير ذلك، والمنتجات التي يمكن عقد شراكات لتوفيرها لكل شريحة. تبنى الضمان فكرة التخريج وأن الضمان والرعاية أمر مرحلي، وأن الإنتاج والتأهيل هو الأساس. توجه الوزير للجهات المعنية لدراسة الأسباب البنيوية لتزايد الأسر المهجورة (ارتفع إلى 28425 أسرة في عام 2015 مقارنة مع 17077 أسرة في عام 2013).

ذهب لوزارة العدل لمناقشة وضع المطلقات الذين نسبتهم من مستحقي الضمان (12,7%)، وعقد شراكة مع القطاع الخيري لإدارة مشروعات وبرامج اجتماعية وتنموية متنوعة تسهم في خدمة أسر السجناء وذويهم بالمملكة. وضعت الوزارة قدما في الأبحاث لتعالج المشاكل من جذورها. ومن ذلك حديثها عن غياب استراتيجية وطنية للحد من الإعاقة والتخفيف من آثارها. رغم أن الدراسات أثبتت أن 26.0% من الإعاقات سببها حوادث الطرق، و19.0% من الأسباب الإعاقة نتجت عن أمراض وراثية، وهي أمور يمكن مواجهتها والحد منها. وهناك مشوار طويل، آمل لهم التوفيق فيه. ثمة تحول وطني، وهنا نموذج متألق لهذا العمل والأمل.