الرأي

جدة والحداثة.. وديعة سعد مصلوح

حسين بافقيه
وضع الدكتور سعد مصلوح قسم اللغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز في قلب مشكلات النقد الحداثي، حين عالج تلك المشكلات في كتابه «الأسلوب، دراسة لغوية إحصائية»، في أثناء مقامه في مدينة جدة، وحين جعل «علم الأسلوب» مادة دراسية، لا بدَّ لطالب اللغة العربية وآدابها من دراستها، قبل أن يظفر بإجازته الجامعية، ولكن القصة لا تتم عند هذا القدر، وإن فيها لفصلا، هو عندي، من أهم فصول التأريخ لبواكير النقد الحداثي في المملكة، ومن الطريف أن هذا الفصل بطله سعد مصلوح!

سوف أسوق بين يدي هذه المقالة تاريخا منسيّا من عمر الثقافة في بلادنا، مع أنه حقيق به أن لا يكون كغيره من التواريخ، ولأنه آذن بفصل جديد من عمر الثقافة في المملكة، وعمر النقد الأدبي، والحداثي منه خاصَّة.

كان بإمكان يوم الحادي عشر من شهر جمادى الأولى من سنة 1402هـ (السادس من شهر مارس من سنة 1982م) – أن يكون يوما من غمار الأيام، ولكنه لم يكن كذلك، لأنه شهد حدثا ثقافيّا عامّا له ما بعده في حركة الأدب والنقد في المملكة، وهاك بيانه:

دعا نادي جدة الأدبي، في عهد رئيسه عبدالفتاح أبومدين، جمهور الأدباء والمثقفين إلى محاضرة ثقافية عامة، مكانها «صالة» مدارس الثغر النموذجية بطريق مكة، يلقيها الدكتور سعد مصلوح، الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية، بجامعة الملك عبدالعزيز، وعنوانها «الاتجاه اللغوي في النقد الحديث».

وأقرب الظن أن عنوان المحاضرة لم يكن ليدلَّ على أنه يخبئ شيئا غريبا، فما أكثر العنوانات التي تتخذ اللغة أو النقد موضوعا لها، ولا أحسب أن أحدا سيحكّ في صدره أن في الأمر شيئا طريفا، فالمحاضرة أعدَّ لها نادٍ أدبيّ، والمحاضر أستاذ في اللغة العربية، والجمهور من الأدباء والأساتذة ومحبي الأدب. إذن لا غرابة في ذلك.

افتتح المحاضر الدكتور سعد مصلوح كلمته بحمد الله والصلاة على نبيه، ثم أخذ في موضوع محاضرته، وإذا به يخوض في مسائل من العلم والنقد غريبة جديدة، وضروب من الكلام لم تألفها المنابر الثقافية العامة في البلاد، ولا الصحف، ولا أندية الأدب، وكان المحاضر الذي يتحدث إلى الجمهور بلغة عربية متينة عالية، يسوق عبارات غامضة، وما هي بغامضة، عن «أدبية الأدب»، وعن العلوم والمناهج التي نازعتْ في الأدب أهله، ما بين مؤرخ، وعالم اجتماع، وعالم نفس، وفيلسوف، وعالم أفكار، وعن منهجين في درس الأدب، أحدهما يدرس الأدب من خارجه، وآخرهما يدرس الأدب من داخله، وأن الأدب «فنّ»، كمثله من الفنون، ولكنه يمتاز من تلك الفنون بأنه «فن لغوي»، وأن اللغة جوهر النص، ولما كان الأمر كذلك، ساغ لـ»علم اللغة» أن يمدَّ أسبابه إلى هذا الفن اللغوي، ثم فصَّل المحاضر الشاب الكلام بعض تفصيل، فتحدَّث عن الأثر العميق الذي كان عالم اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير قد ألقاه في المناهج الكبرى في الفلسفة والعلوم الاجتماعية وعلم النفس والتربية، حين أفادت تلك العلوم من أصول نظريته في اللغة، وأنه آن لدرْس الأدب، والنقد الأدبي خاصة، أن يثوبا إلى حمى اللغة، وإلى رعاية المختصِّين باللغة، بعد اغتراب طال أمده.

كان المحاضر بالغ الحماسة وهو يسوق الحجة تلو الحجة عما يمكن لعلم اللغة – أو الألسنية – أن يمدَّ به دارس الأدب، وجعل يتنقل من منهج إلى آخر من تلك المناهج التي تدرس الأدب من خارجه، كي يقنع جمهوره من مثقفي جدة وأدبائها وأساتذة جامعتها، بصحة ما يدَّعيه، حتى إذا أشبع تلك المناهج نقدا، بسط القول في أضرب من المناهج التي جعلت غايتها دراسة الأدب من الداخل، وأهمّها «البنيوية» – ولعلها كانت المرة الأولى التي يُفْصَح عن اسمها في منتدى ثقافي عام! – فـ»ــالأسلوبية»، باتجاهاتها المختلفة، وبين هذا المنهج وذاك، كان جمهور «صالة» مدارس الثغر النموذجية بطريق مكة يصيخ سمعه إلى تلك المصطلحات والأسماء التي لامست أسماعهم للمرة الأولى، فمن «أدبية الأدب»، و»الشعرية»، إلى «الفونيمات»، و»المورفيمات»، إلى «البنيوية التحويلية»، و»تشومسكي»، و»ريفاتير»، و»بارط»، و»شتراوس». ولم يكد الجمهور يسترد أنفاسه، بعد أن أوغل بهم المحاضر في غابة الفلسفة ومناهج النقد والعلوم الإنسانية، حتى صُبَّت عليه المصطلحات وأسماء الأعلام مرة أخرى، فاندفع الدكتور يوسف نور عوض، الأستاذ في قسم اللغة العربية، في حديث مصطلحي طويل، عرف منه الجمهور أنه يخالف المحاضر بعض مخالفة فيما ذهب إليه في حديثه عن «البنيوية»، وجعل يفصل الكلام عن مفهوم «البنية» عند جان بياجيه، وأنها تتميز بـ»الشمول»، و»التحول»، و»التنظيم الذاتي»، وأن الدكتور مصلوح خالف «بارط» في فهمه لمعنى «البنيوية»، ثم إذا بالجمهور ينصت لحِجَاج المحاضر، وتلقَّف سمعه مصطلحات وأسماء جديدة أهمها «الشكلانيون الروس»، و»تودورف»، ولم يكد الجمهور يسكن هنيهة حتى رأى شابّا سعوديّا اسمه سعيد السريحي يخوض فيما يخوض فيه الدكتور سعد مصلوح والدكتور يوسف نور عوض من كلام مصطلحي غامض، وفهم الجمهور من كلام الشاب إشارته إلى كتاب «البنية الإيقاعية في الشعر العربي»، لكمال أبوديب، وكتاب «نظرية البنائية في النقد الأدبي»، لصلاح فضل، وحديثه عن سهمة أستاذه في جامعة أم القرى الدكتور لطفي عبد البديع في هذا الضرب من المناهج، حين وضع كتابا دعاه «التركيب اللغوي للأدب». ولم يكد الجمهور يفيق من اصطراع تلك المصطلحات، حتى عاد المحاضر يدفع عن نفسه، على صفحات صحيفة «المدينة»، تهمة «البنيوية»! وكأنما كانت كلمته في تلك الصحيفة أول جدل نقدي حول صاحبة الجلالة «البنيوية»، في الصحافة السعودية!

بعد هذه المحاضرة الطريفة الغريبة، بمدَّة يسيرة، كان الدكتور سعد مصلوح قد أتمَّ مدة تدريسه في جامعة الملك عبدالعزيز، وآب إلى وطنه، ولكنه كان قد ترك في تراب مدينة جدة «وديعته» التي ادَّخرها للأجيال، فكانت تلك المحاضرة «الوديعة» أول إعلان «عام» عن مولد النقد الأدبي الحداثي في المملكة العربية السعودية، ولم يَخْشَ ذلك الفتى الأسمر على «وديعته» الضياع، وقد عرف أنها ستؤتي ثمارها، بعد حين لن يطول، حين تصدَّى عبدالله الغذامي وسعيد السريحي لرعايتها ونمائها!