ترامب الذي يمشي بيننا
الاثنين / 12 / جمادى الآخرة / 1437 هـ - 21:45 - الاثنين 21 مارس 2016 21:45
في تحليل قام به موقع «بوليتيكو» لأربع وساعات ونصف من خطابات ومؤتمرات المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب وجد أنه يكذب مرة في كل خمس دقائق يفتح فيه فمه متحدثا أو مجيبا. أما موقع «بوليتيفاكت» الذي يعنى بتدقيق مصداقية العبارات التي يطلقها الساسة الأمريكيون، فقد وجد أن 80% من عبارات ترامب تحمل أكاذيب ومغالطات تنافي الواقع.
ترامب يكذب برتم يفوق سرعة الصحفيين على التحقق من مصادر كذباته. وقدرة ترامب على الكذب عن كل شيء في كل مناسبة لا يضاهيها سوى قدرته على استغلال هذه الأكاذيب لحشد عشرات الآلاف لحضور خطاباته واكتساح الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. فالحقيقة تبدو آخر اهتمامات مؤيدي ترامب الذين يجدون فيما يقوله انتصارا لاعتقادهم بمركزيتهم القطرية والعقدية والاثنية والعرقية ومغازلة لأحلامهم في استعادة سيطرتهم على المشهد السياسي بعد ثماني سنوات من حكم «مسلم مولود في كينيا» يقطن في البيت الأبيض. فكيف يمكن لترامب أن يصعد إلى قمة المشهد السياسي على سلم من الكذب في عصر يمكن التحقق فيه من دقّة أي معلومة عبر بحث بسيط على الانترنت؟
الحيرة حيال ظاهرة ترامب تنبع من مخالفته لكل القواعد التقليدية التي تحكم المشهد السياسي والتي تنصّ على أن الكذب على الناس يمنع الحصول على تأييدهم وثقتهم. ولكن ماذا لو كانت هذه الكذبة هي ما ينتظر الناس سماعه؟
من المعروف أن معتقدات الناس وتصوراتهم عن العالم تتبع هوياتهم أيا كان مصدر تلك الهوية. ففي الفضاء السياسي الأمريكي، يشعر الجمهوريون أصحاب الهوية المحافظة بأنهم أكثر عرضة لتهديد خارجي يؤثر على استقرارهم سواء كان شكل هذا التهديد هجمات إرهابية من مجموعات متطرفة أو منافسة على الوظائف من قبل المهاجرين. أما الديمقراطيون أصحاب الهوية المنفتحة فهم أقل قلقا حيال تعاملهم مع الغير، ويشعرون أن التعددية في المجتمع تعدّ مصدرا لزيادة المعرفة والتنافسية والابتكار.
وهذا الاستناد إلى الهوية كأداة تحليلية رغم قصورها عن الوصول إلى الحقيقة لا يعدّ مفاجأة إذ إنّها توفر خيارا سريعا وفعالا لتحليل الأحداث من حولنا دون جهد كبير. ولكن ما يتوقعه العاقل منّا أن الناس سوف يتخلّون عن تصوراتهم المسبقة متى ما تمّت مواجهتهم بالحقائق التي تخالف هوياتهم. وبالتالي فإنّ أي مؤيد لترامب حتى لو أعجبه ما يقول يجب أن يتخلى عن هذا التأييد متى ما اكتشف أن جلّ ما يقوله لا مصداقية له.
في الواقع لا تغيّر الحقيقة من الهوية شيئا. وردة فعل الناس لما يخالف معتقداتهم تتراوح من تجاهل هذه الحقائق تماما إلى تحريفها عن معناها واستغلالها لتقوية مواقفهم السابقة. فالنظرية الجدلية للمنطق تنصّ على أن الاستنتاج - كواحدة من وظائف التفكير - نشأ وتطور من أجل كسب الجدال ضدّ الغير وليس من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولذا اكتسب البشر عبر تاريخهم قدرة على الجدال والإقناع تفوق قدرتهم على التحليل. ونتيجة لهذه الظاهرة فإن ما يبدو وكأنه غباء وقصور في التفكير من أتباع ترامب، في الواقع يعدّ استراتيجية فعّالة لتحقيق رؤيتهم السياسية.
ولأن كسب الحجة أهم من صحتها، فإننا نستخدم الهوية عوضا عن الحقائق في صناعة التصورات. ففي دراسة قامت بها ليزا بولتون وأميركوس رييد تم عرض مزايا وعيوب قارئ الكتروني على مجموعتين من المشاركين لتقييم رأيهم في فرص نجاح الجهاز في حال طرحه في السوق. الفارق البسيط بين المشاركين أن المجموعة الأولى عرّفت نفسها كمدافعين عن البيئة. ومع أنّ كلتا المجموعتين اطلعتا على ذات المعلومات عن جودة الجهاز، فإن المدافعين عن البيئة منحوا الجهاز برغم عيوبه فرص نجاح أكبر من غيرهم.
بل إن الدراسة ذاتها وجدت أن الطريقة الأكثر فعالية في تغيير تصورات الناس لا علاقة لها بالتحليل والتحقّق وإنما تكمن في الضغط الاجتماعي ومقارنة مواقفهم بمواقف الآخرين والتأثير عليهم باسم الجماعة. وهذه الحيلة حاضرة بشكل ملاحظ في خطابات ترامب التي تعامل مؤيديه كقبيلة تؤمن بسلطتها على الغير وتتحد خلف قائدها ضدّ الغير الذي يتآمر على مصلحة القبيلة. وقد وجد استطلاع للرأي شارك فيه 1800 من الناخبين أن العامل الأكثر تأثيرا في تمييز مؤيدي ترامب عن غيرهم من المجموعات السياسية هو تشاركهم لصفات الشخصية السلطوية. ومن علامات هذه الشخصية الطاعة العمياء للأعراف والتقاليد، والتصديق بالشعارات النابعة من الهوية، وتقسيم العالم إلى مجموعات خيّرة وشريرة بناء على توافق هذه المجموعات مع الذات.
وربما لا نحتاج إلى سياسي برتقالي البشرة بتسريحة شعر كرتونية لنفهم قصور المنطق في حضرة الجدال والهوية. فكل منا في محيطه يعرف ترامب أو قد رأى ترامب. هو البلطجي الذي يعيّرك بمنشئك وقبيلتك ومذهبك، لأن كل شيء لا يتفق مع هويته يعدّ طبقة دنيا في هذا العالم. وهو الشيخ الذي يحرّض طائفة على أخرى بحجة أنها الفئة الناجية. وهو المتحرش الذي يجد في لباس امرأة يخالف ما يعتقده شرعنة لجريمته. وهو المبتزّ الذي يتتبع من يخالفونه على تويتر ليصف آراءهم بأنها عمالة للخارج وإفساد للمجتمع. وهو التاجر الفاسد الذي يستغل ضعف عمالة جاءت من أقصى الأرض ليشغلهم في ظروف يرى أنها تليق بإنسانيتهم الأدنى من مكانته.
h.faqihi@makkahnp.com
ترامب يكذب برتم يفوق سرعة الصحفيين على التحقق من مصادر كذباته. وقدرة ترامب على الكذب عن كل شيء في كل مناسبة لا يضاهيها سوى قدرته على استغلال هذه الأكاذيب لحشد عشرات الآلاف لحضور خطاباته واكتساح الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. فالحقيقة تبدو آخر اهتمامات مؤيدي ترامب الذين يجدون فيما يقوله انتصارا لاعتقادهم بمركزيتهم القطرية والعقدية والاثنية والعرقية ومغازلة لأحلامهم في استعادة سيطرتهم على المشهد السياسي بعد ثماني سنوات من حكم «مسلم مولود في كينيا» يقطن في البيت الأبيض. فكيف يمكن لترامب أن يصعد إلى قمة المشهد السياسي على سلم من الكذب في عصر يمكن التحقق فيه من دقّة أي معلومة عبر بحث بسيط على الانترنت؟
الحيرة حيال ظاهرة ترامب تنبع من مخالفته لكل القواعد التقليدية التي تحكم المشهد السياسي والتي تنصّ على أن الكذب على الناس يمنع الحصول على تأييدهم وثقتهم. ولكن ماذا لو كانت هذه الكذبة هي ما ينتظر الناس سماعه؟
من المعروف أن معتقدات الناس وتصوراتهم عن العالم تتبع هوياتهم أيا كان مصدر تلك الهوية. ففي الفضاء السياسي الأمريكي، يشعر الجمهوريون أصحاب الهوية المحافظة بأنهم أكثر عرضة لتهديد خارجي يؤثر على استقرارهم سواء كان شكل هذا التهديد هجمات إرهابية من مجموعات متطرفة أو منافسة على الوظائف من قبل المهاجرين. أما الديمقراطيون أصحاب الهوية المنفتحة فهم أقل قلقا حيال تعاملهم مع الغير، ويشعرون أن التعددية في المجتمع تعدّ مصدرا لزيادة المعرفة والتنافسية والابتكار.
وهذا الاستناد إلى الهوية كأداة تحليلية رغم قصورها عن الوصول إلى الحقيقة لا يعدّ مفاجأة إذ إنّها توفر خيارا سريعا وفعالا لتحليل الأحداث من حولنا دون جهد كبير. ولكن ما يتوقعه العاقل منّا أن الناس سوف يتخلّون عن تصوراتهم المسبقة متى ما تمّت مواجهتهم بالحقائق التي تخالف هوياتهم. وبالتالي فإنّ أي مؤيد لترامب حتى لو أعجبه ما يقول يجب أن يتخلى عن هذا التأييد متى ما اكتشف أن جلّ ما يقوله لا مصداقية له.
في الواقع لا تغيّر الحقيقة من الهوية شيئا. وردة فعل الناس لما يخالف معتقداتهم تتراوح من تجاهل هذه الحقائق تماما إلى تحريفها عن معناها واستغلالها لتقوية مواقفهم السابقة. فالنظرية الجدلية للمنطق تنصّ على أن الاستنتاج - كواحدة من وظائف التفكير - نشأ وتطور من أجل كسب الجدال ضدّ الغير وليس من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولذا اكتسب البشر عبر تاريخهم قدرة على الجدال والإقناع تفوق قدرتهم على التحليل. ونتيجة لهذه الظاهرة فإن ما يبدو وكأنه غباء وقصور في التفكير من أتباع ترامب، في الواقع يعدّ استراتيجية فعّالة لتحقيق رؤيتهم السياسية.
ولأن كسب الحجة أهم من صحتها، فإننا نستخدم الهوية عوضا عن الحقائق في صناعة التصورات. ففي دراسة قامت بها ليزا بولتون وأميركوس رييد تم عرض مزايا وعيوب قارئ الكتروني على مجموعتين من المشاركين لتقييم رأيهم في فرص نجاح الجهاز في حال طرحه في السوق. الفارق البسيط بين المشاركين أن المجموعة الأولى عرّفت نفسها كمدافعين عن البيئة. ومع أنّ كلتا المجموعتين اطلعتا على ذات المعلومات عن جودة الجهاز، فإن المدافعين عن البيئة منحوا الجهاز برغم عيوبه فرص نجاح أكبر من غيرهم.
بل إن الدراسة ذاتها وجدت أن الطريقة الأكثر فعالية في تغيير تصورات الناس لا علاقة لها بالتحليل والتحقّق وإنما تكمن في الضغط الاجتماعي ومقارنة مواقفهم بمواقف الآخرين والتأثير عليهم باسم الجماعة. وهذه الحيلة حاضرة بشكل ملاحظ في خطابات ترامب التي تعامل مؤيديه كقبيلة تؤمن بسلطتها على الغير وتتحد خلف قائدها ضدّ الغير الذي يتآمر على مصلحة القبيلة. وقد وجد استطلاع للرأي شارك فيه 1800 من الناخبين أن العامل الأكثر تأثيرا في تمييز مؤيدي ترامب عن غيرهم من المجموعات السياسية هو تشاركهم لصفات الشخصية السلطوية. ومن علامات هذه الشخصية الطاعة العمياء للأعراف والتقاليد، والتصديق بالشعارات النابعة من الهوية، وتقسيم العالم إلى مجموعات خيّرة وشريرة بناء على توافق هذه المجموعات مع الذات.
وربما لا نحتاج إلى سياسي برتقالي البشرة بتسريحة شعر كرتونية لنفهم قصور المنطق في حضرة الجدال والهوية. فكل منا في محيطه يعرف ترامب أو قد رأى ترامب. هو البلطجي الذي يعيّرك بمنشئك وقبيلتك ومذهبك، لأن كل شيء لا يتفق مع هويته يعدّ طبقة دنيا في هذا العالم. وهو الشيخ الذي يحرّض طائفة على أخرى بحجة أنها الفئة الناجية. وهو المتحرش الذي يجد في لباس امرأة يخالف ما يعتقده شرعنة لجريمته. وهو المبتزّ الذي يتتبع من يخالفونه على تويتر ليصف آراءهم بأنها عمالة للخارج وإفساد للمجتمع. وهو التاجر الفاسد الذي يستغل ضعف عمالة جاءت من أقصى الأرض ليشغلهم في ظروف يرى أنها تليق بإنسانيتهم الأدنى من مكانته.
h.faqihi@makkahnp.com