جدلية التغريب وحقيقته
الخميس / 8 / جمادى الآخرة / 1437 هـ - 20:00 - الخميس 17 مارس 2016 20:00
في الجزء الأول من مقال الأسبوع الماضي طرحنا تساؤلا عن سبب تركيز الخطاب الصحوي على مصطلحات (الهوية، الخصوصية...) أكثر من التركيز على النص الديني والاستنباط المباشر منه، فكان السؤال: لماذا يتم تجاهل وضوح النصوص الدينية في مواجهة بعض المتغيرات الزمنية واللجوء لاستحضار مفاهيم الهوية والخصوصية... إلخ؟ وسنرى كيف سيتم القفز على وضوح النص الديني أحيانا لمصلحة فكرة متخيلة؛ من أجل استخدامها في إدارة المعركة مع التغيير والزمن.
مع بدايات عصر أجهزة استقبال البث الفضائي دخلت إلى المجال الإدراكي العام للمجتمع لغة دينية وخطاب ديني جديد أكثر انسجاما مع الواقع والعصر، وأكثر هدوءا وتصالحا مع الذات، وأكثر قدرة على استخدام النص الديني نفسه، وبالتالي فلا بد للخطاب المحافظ المحلي من تغيير الأدوات التي كان يستخدمها قبل عصر الفضائيات، وبالفعل تم اللجوء إلى استحضار مجالات وعي أكثر إنشائية، بحيث لا يمكن أن تجابه بالنص الديني نفسه من قبل خطاب ديني منافس؛ نظرا لاتكائها على إنشائيات (الهوية)، وليس على مادية الدين النصية الملموسة، وفي نفس الوقت يتم تمرير لغة الاعتراض بطريقة تضمن بقاء شرعية التمثيل الوصائي عبر ادعاءات الحراسة الحصرية لقيم وثقافة مجتمع كامل متعدد الأطياف.
الأمثلة على ذلك كثيرة، وقد يكفي أن نستحضر قضية ابتعاث الطلاب للدراسة في الخارج للدلالة على كيفية عمل تلك الاستراتيجية؛ فالنص الديني يصرح بأن على الإنسان طلب العلم، بل والسفر من أجل تحقيق ذلك، إلا أن هذا الأمر غير مرحب به عند منظومة الصحوة وأفكارها، إذا.. فلا بد من حيلة أخرى لمواجهة هذا النص، وهنا يمكن أن تثار مخاوف تلك الهوية بطريقة تلح في القفز على النص الديني وفلسفته الواضحة إلى تلك المنطقة الإنشائية غير المنضبطة بمواد نصية قاطعة أو معايير تصوراتية محددة، وبالتالي فإن تلك الهوية يمكن أن تستحضر كبديل يمكن استثارته من أجل رسم صورة الخطر المتخيل، وكل ذلك يأتي في سياق الرغبة في استمرار تسييل لغة الخطاب الوعظي وإبقاء قبضته على الذهن الجمعي بأي طريقة كانت، ولو على حساب الوعي بمعايير وأبجديات الحقائق الساذجة، أو حتى الانتباه إلى تموضع الدين ومفاهيمه في وجدان الكثيرين جراء كل تلك المقاومة لتطلعات الفرد وطموحاته.
بقي أن نشير إلى أن التغريب الحقيقي الذي حصل للمجتمع السعودي هو في تلك العزلة التي نشأ عليها جيلٌ كامل أصبح يعاني من انعدام القدرة على التعايش والانسجام مع الآخر المختلف، وتلك المخرجات التي أنتجت جيلا تنقصه مهارات التواصل مع الشعوب والثقافات في زمن التسابق المحموم نحو قيم النهضة الحضارية والإنسانية التي قفزت إليها كثير من الشعوب. هذا هو التغريب الحقيقي الذي أصبح فيه المجتمع يعيد إنتاج أزماته نفسها. وهذا ما يفسر لماذا تتجه الشعوب نحو التطور والارتقاء بينما نعود نحن خطوات مخيفة إلى الوراء إنسانيا وحضاريا وسلوكيا.. وفكريا؟
إن التغريب الحقيقي لأي مجتمع هو أن يظل جزءا منفصلا وغريبا عن هذا العالم تحت أوهام خصوصية الذات المزهوة بنرجسية التعالي والعزلة لذريعة النقاء الاعتقادي والمفاهيمي. والصحيح أن قيم التعايش والتعارف والتقارب والاندماج مع الآخر المختلف، ومع الحياة ومتغيراتها، ومع الهم النهضوي والحقوقي ومتطلباتهما، لن تؤثر على نبض التدين والهوية معا وتجليهما الأزلي في الأرواح، كما يحاول أن يصوره دعاة المعارضة للحياة الذين لا يكلون ولا يملون من تهويل إثارة مخاوف زوالهما، برغم أنهم عملوا – هم أنفسهم – دون وعي، وبعشوائية التسويق المفرط للدلالات الادعائية، على انحراف التدين والهوية معا بأشكال كثيرة.
waheed@makkahnp.com
مع بدايات عصر أجهزة استقبال البث الفضائي دخلت إلى المجال الإدراكي العام للمجتمع لغة دينية وخطاب ديني جديد أكثر انسجاما مع الواقع والعصر، وأكثر هدوءا وتصالحا مع الذات، وأكثر قدرة على استخدام النص الديني نفسه، وبالتالي فلا بد للخطاب المحافظ المحلي من تغيير الأدوات التي كان يستخدمها قبل عصر الفضائيات، وبالفعل تم اللجوء إلى استحضار مجالات وعي أكثر إنشائية، بحيث لا يمكن أن تجابه بالنص الديني نفسه من قبل خطاب ديني منافس؛ نظرا لاتكائها على إنشائيات (الهوية)، وليس على مادية الدين النصية الملموسة، وفي نفس الوقت يتم تمرير لغة الاعتراض بطريقة تضمن بقاء شرعية التمثيل الوصائي عبر ادعاءات الحراسة الحصرية لقيم وثقافة مجتمع كامل متعدد الأطياف.
الأمثلة على ذلك كثيرة، وقد يكفي أن نستحضر قضية ابتعاث الطلاب للدراسة في الخارج للدلالة على كيفية عمل تلك الاستراتيجية؛ فالنص الديني يصرح بأن على الإنسان طلب العلم، بل والسفر من أجل تحقيق ذلك، إلا أن هذا الأمر غير مرحب به عند منظومة الصحوة وأفكارها، إذا.. فلا بد من حيلة أخرى لمواجهة هذا النص، وهنا يمكن أن تثار مخاوف تلك الهوية بطريقة تلح في القفز على النص الديني وفلسفته الواضحة إلى تلك المنطقة الإنشائية غير المنضبطة بمواد نصية قاطعة أو معايير تصوراتية محددة، وبالتالي فإن تلك الهوية يمكن أن تستحضر كبديل يمكن استثارته من أجل رسم صورة الخطر المتخيل، وكل ذلك يأتي في سياق الرغبة في استمرار تسييل لغة الخطاب الوعظي وإبقاء قبضته على الذهن الجمعي بأي طريقة كانت، ولو على حساب الوعي بمعايير وأبجديات الحقائق الساذجة، أو حتى الانتباه إلى تموضع الدين ومفاهيمه في وجدان الكثيرين جراء كل تلك المقاومة لتطلعات الفرد وطموحاته.
بقي أن نشير إلى أن التغريب الحقيقي الذي حصل للمجتمع السعودي هو في تلك العزلة التي نشأ عليها جيلٌ كامل أصبح يعاني من انعدام القدرة على التعايش والانسجام مع الآخر المختلف، وتلك المخرجات التي أنتجت جيلا تنقصه مهارات التواصل مع الشعوب والثقافات في زمن التسابق المحموم نحو قيم النهضة الحضارية والإنسانية التي قفزت إليها كثير من الشعوب. هذا هو التغريب الحقيقي الذي أصبح فيه المجتمع يعيد إنتاج أزماته نفسها. وهذا ما يفسر لماذا تتجه الشعوب نحو التطور والارتقاء بينما نعود نحن خطوات مخيفة إلى الوراء إنسانيا وحضاريا وسلوكيا.. وفكريا؟
إن التغريب الحقيقي لأي مجتمع هو أن يظل جزءا منفصلا وغريبا عن هذا العالم تحت أوهام خصوصية الذات المزهوة بنرجسية التعالي والعزلة لذريعة النقاء الاعتقادي والمفاهيمي. والصحيح أن قيم التعايش والتعارف والتقارب والاندماج مع الآخر المختلف، ومع الحياة ومتغيراتها، ومع الهم النهضوي والحقوقي ومتطلباتهما، لن تؤثر على نبض التدين والهوية معا وتجليهما الأزلي في الأرواح، كما يحاول أن يصوره دعاة المعارضة للحياة الذين لا يكلون ولا يملون من تهويل إثارة مخاوف زوالهما، برغم أنهم عملوا – هم أنفسهم – دون وعي، وبعشوائية التسويق المفرط للدلالات الادعائية، على انحراف التدين والهوية معا بأشكال كثيرة.
waheed@makkahnp.com