تفضل قل رأيك الذي لا يهمني!
الاثنين / 5 / جمادى الآخرة / 1437 هـ - 21:30 - الاثنين 14 مارس 2016 21:30
ما الذي تحتاجه لتقول رأيا أو حكما؟
في عام 1543 وقبيل أيام من وفاته، أخبر عالم الرياضيات والفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس العالم أنه حين ينظر إلى السماء فإنه يرى خلاف ما تؤمن به الكنيسة ويعتاده البشر. ففي كتابه «حول دوران الأجرام السماوية» قدم كوبرنيكوس بحثا رياضيا يجادل فيه بأن الشمس هي مركز الكون، وأن الأرض ليست ثابتة كما يعتقد الناس، بل تدور كما تدور بقية الكواكب والأجرام التي تزين صفحة السماء في الليل. ولكن العالم المشغول حينها باكتشاف الأرض بعد وصول كولومبوس إلى العالم الجديد، ورحلة ماجلان حول الأرض التي أثبتت كروية الكوكب، لم يبدو مهتما بإعادة تقويم موقعه من الكون مما جعل أفكار كوبرنيكوس محدودة الانتشار لسبعين عاما قبل أن يتبناها الإيطالي غاليليو ويثبت عبر تتبعه للأفلاك أن كوكب البشر مجرد جرم آخر تابع للشمس، ليشعل غضب الكنيسة فتقرر محاكمته ومنع تداول أفكاره مجددة إيمان الناس الفطري وهم يراقبون مواقع النجوم ودورتها أنهم منتصف كل شيء ومركزه.
ثم بعد غاليليو جاء نيوتن وآنيشتاين لتفقد الشمس هي الأخرى موقعها من الكون، ولتُستبدل المركزية بالنظرية النسبية التي تنص على أن الكون لا مركز له وأن المركز مجرد تصور يمكن في عين الرآئي فأينما كان موقعك من الأرض أو الفضاء ستبصر عالما أنت محوره تتوزع كائناته وأجرامه عن يمينك وشمالك ليصبح وجودك هو الثابت الوحيد، وما سواه مجرد إطار يلتف حول ما تبصره عيناك.
لا بأس أن تظن بأنك مركز الكون فلا مركز لهذا الكون إلا العين التي تراه. وأن تقول «أشرقت الشمس» بدل أن تقول «حركة الأرض بالنسبة للكون جعلت الأفق كما يبدو من موقعي يهبط ليكشف لي موقع الشمس».
ولا بأس أن تنظر إلى العالم ووجود الآخرين كرواية بطلها أنت فتفسر أحداثها بما يتفق مع تجاربك السابقة وهويتك ومعتقداتك تماما كما نظر الأقدمون إلى السماء فظنوا أنهم جرمها المفضل، وانطلقوا يطلقون على بقية الأجرام أسماء تصف حوادث أرضية ويقرؤون في مطالع النجوم التي تبعد ملايين السنوات الضوئية أحداث مستقبلهم ومصائر ملوكهم دون أدنى تخيل بأن الأرض بكل ما فيها تبدو من حافة المجموعة الشمسية كنقطة غبار باهتة. ولا بأس أن تقضي يومك مشغولا بتغطية بقعة عصير على ثوبك ظنا منك بأن أعين الناس حيثما اتجهت لا شغل لها إلا مراقبتك وكأنهم شخوص الظل في مسرحية أنت شخصيتها الرئيسية.
ولكن متى ما آمنت بأن خلو الكون من أي نقطة مركزية حقيقية يمنحك الحق في أن تصبح أنت مركزه وأن تتقمص دور البطل في حياتك، فعليك أن تؤمن أيضا أن سبعة مليارات شخص آخر يمرون بذات التجربة الذهنية، فيضعون أنفسهم في المركز ويفسرون كل حدث في الكون حسب تصوراتهم، ويحيلون وجودك إلى مجرد «كومبارس» لا شغل له سوى التحديق في خطواتهم.
فكيف تعيش حياة تكون أنت شخصيتها الرئيسية دون أن تبخس الآخرين حقهم في أن يكونوا أبطال حياتهم أيضا؟!
لا عجب أن تجد هذا المقال في صفحة يطلق عليها اسم الرأي، فكل ما نمارسه أننا نضع أنفسنا في منتصف كل شيء، ونحيل ما نراه رغم تفاهة حجمه وقصر مداه إلى سرد يفسر العالم بطريقة لا تطابق حقيقته.
وفي هذا العصر الذي مكن كلا منا أن يتصل بالآخرين دون رقيب، أصبح الكل مهووسا بأن يترك رأيا في كل هاشتاق ليعبر عن وجوده والزاوية الفريدة التي يبصر من خلالها العالم صارخا في الآخرين «أنا هنا!».
ولأن الرأي هو تعبير عمن يَرى أكثر من كونه تمثيلا لما يُرى، فإنه يتحول إلى جزء مكون للشخصية لا ينفك عنها. فمهما قيل لك بأن الاختلاف لا يفسد للود قضية فإننا في المجمل نعتقد أن حكم الناس على آرائنا هو حكم على شخصياتنا وأهميتنا وقدراتنا الذهنية.
ورغم القيمة المعرفية الضئيلة للآراء الفردية، فإن كلا منا يتوقع من الآخرين أن يحترموا رأيه وأن يغيروا من سلوكياتهم وتصرفاتهم بناء على هذا الرأي.
ولكن ماذا لو أخبرتك أنه رغم حقك المطلق في أن تبدي رأيك في كل شاردة وواردة، فإن هذا الرأي لا يهمني وربما لا يهم أحدا في العالم سواك. فأنت تبصر العالم وكأنك واقف في منتصفه ولأنك – في واقع الأمر – لست مركز الكون، فأخشى أن معظم ما تراه يعد نظرة قاصرة تحاول أن تختصر كل شيء في قصة واحدة.
ولكن إذا جردنا الآخرين من جدوى تصوراتهم فكيف نثق فيما يخبروننا به عن أنفسهم وعن العالم؟
ثمرة المعرفة والمنطق تتجلى في قدرة الناس على الحكم وليس على سرد الآراء. فمن أجل أن تسرد رأيا فكل ما تحتاجه أن تصبغ كل شيء بصح أو خطأ، ومناسب أو غير مناسب معتمدا في ذلك على هويتك وعاداتك، ولكن الحكم يتطلب جمعا للمعلومات دون تحيز إلى ما يعجبك منها وتحليل الأحداث كما هي لا كما تشتهي أن تكون، ومن ثم تقييم المحيط بنظرة تشمل كل زاوية ممكنة ولا تقتصر على النافذة التي ترى منها.
فحين تسرد رأيا في الغالب تجعل ذاتك مصدر المعرفة وتجربتك طريقة التحليل. ولكن لكي تصدر حكما، تحتاج إلى أن تتخلص من مركزيتك وأن تجعل الآخرين هم مصدر الرؤية وأن تستند إلى معيار ثابت لا يتأثر بلون أو جنس من يستخدمه لتصل إلى نتيجة لا تتأثر بتصوراتك المسبقة.
أرسطو كان فيلسوفا وحين نظر إلى السماء استخدم رؤيته ليقول بأن الأرض هي مركز الكون. ولكن كوبرنيكوس كان عالما لم يقتنع بالحيز المتاح أمامه وظل يعمل لسنوات بحثا عن معادلة رياضية تفسر علاقة الأرض بالشمس بعيدا عما تراه عيناه.
بالمناسبة: ما رأيك في هذا المقال؟
في عام 1543 وقبيل أيام من وفاته، أخبر عالم الرياضيات والفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس العالم أنه حين ينظر إلى السماء فإنه يرى خلاف ما تؤمن به الكنيسة ويعتاده البشر. ففي كتابه «حول دوران الأجرام السماوية» قدم كوبرنيكوس بحثا رياضيا يجادل فيه بأن الشمس هي مركز الكون، وأن الأرض ليست ثابتة كما يعتقد الناس، بل تدور كما تدور بقية الكواكب والأجرام التي تزين صفحة السماء في الليل. ولكن العالم المشغول حينها باكتشاف الأرض بعد وصول كولومبوس إلى العالم الجديد، ورحلة ماجلان حول الأرض التي أثبتت كروية الكوكب، لم يبدو مهتما بإعادة تقويم موقعه من الكون مما جعل أفكار كوبرنيكوس محدودة الانتشار لسبعين عاما قبل أن يتبناها الإيطالي غاليليو ويثبت عبر تتبعه للأفلاك أن كوكب البشر مجرد جرم آخر تابع للشمس، ليشعل غضب الكنيسة فتقرر محاكمته ومنع تداول أفكاره مجددة إيمان الناس الفطري وهم يراقبون مواقع النجوم ودورتها أنهم منتصف كل شيء ومركزه.
ثم بعد غاليليو جاء نيوتن وآنيشتاين لتفقد الشمس هي الأخرى موقعها من الكون، ولتُستبدل المركزية بالنظرية النسبية التي تنص على أن الكون لا مركز له وأن المركز مجرد تصور يمكن في عين الرآئي فأينما كان موقعك من الأرض أو الفضاء ستبصر عالما أنت محوره تتوزع كائناته وأجرامه عن يمينك وشمالك ليصبح وجودك هو الثابت الوحيد، وما سواه مجرد إطار يلتف حول ما تبصره عيناك.
لا بأس أن تظن بأنك مركز الكون فلا مركز لهذا الكون إلا العين التي تراه. وأن تقول «أشرقت الشمس» بدل أن تقول «حركة الأرض بالنسبة للكون جعلت الأفق كما يبدو من موقعي يهبط ليكشف لي موقع الشمس».
ولا بأس أن تنظر إلى العالم ووجود الآخرين كرواية بطلها أنت فتفسر أحداثها بما يتفق مع تجاربك السابقة وهويتك ومعتقداتك تماما كما نظر الأقدمون إلى السماء فظنوا أنهم جرمها المفضل، وانطلقوا يطلقون على بقية الأجرام أسماء تصف حوادث أرضية ويقرؤون في مطالع النجوم التي تبعد ملايين السنوات الضوئية أحداث مستقبلهم ومصائر ملوكهم دون أدنى تخيل بأن الأرض بكل ما فيها تبدو من حافة المجموعة الشمسية كنقطة غبار باهتة. ولا بأس أن تقضي يومك مشغولا بتغطية بقعة عصير على ثوبك ظنا منك بأن أعين الناس حيثما اتجهت لا شغل لها إلا مراقبتك وكأنهم شخوص الظل في مسرحية أنت شخصيتها الرئيسية.
ولكن متى ما آمنت بأن خلو الكون من أي نقطة مركزية حقيقية يمنحك الحق في أن تصبح أنت مركزه وأن تتقمص دور البطل في حياتك، فعليك أن تؤمن أيضا أن سبعة مليارات شخص آخر يمرون بذات التجربة الذهنية، فيضعون أنفسهم في المركز ويفسرون كل حدث في الكون حسب تصوراتهم، ويحيلون وجودك إلى مجرد «كومبارس» لا شغل له سوى التحديق في خطواتهم.
فكيف تعيش حياة تكون أنت شخصيتها الرئيسية دون أن تبخس الآخرين حقهم في أن يكونوا أبطال حياتهم أيضا؟!
لا عجب أن تجد هذا المقال في صفحة يطلق عليها اسم الرأي، فكل ما نمارسه أننا نضع أنفسنا في منتصف كل شيء، ونحيل ما نراه رغم تفاهة حجمه وقصر مداه إلى سرد يفسر العالم بطريقة لا تطابق حقيقته.
وفي هذا العصر الذي مكن كلا منا أن يتصل بالآخرين دون رقيب، أصبح الكل مهووسا بأن يترك رأيا في كل هاشتاق ليعبر عن وجوده والزاوية الفريدة التي يبصر من خلالها العالم صارخا في الآخرين «أنا هنا!».
ولأن الرأي هو تعبير عمن يَرى أكثر من كونه تمثيلا لما يُرى، فإنه يتحول إلى جزء مكون للشخصية لا ينفك عنها. فمهما قيل لك بأن الاختلاف لا يفسد للود قضية فإننا في المجمل نعتقد أن حكم الناس على آرائنا هو حكم على شخصياتنا وأهميتنا وقدراتنا الذهنية.
ورغم القيمة المعرفية الضئيلة للآراء الفردية، فإن كلا منا يتوقع من الآخرين أن يحترموا رأيه وأن يغيروا من سلوكياتهم وتصرفاتهم بناء على هذا الرأي.
ولكن ماذا لو أخبرتك أنه رغم حقك المطلق في أن تبدي رأيك في كل شاردة وواردة، فإن هذا الرأي لا يهمني وربما لا يهم أحدا في العالم سواك. فأنت تبصر العالم وكأنك واقف في منتصفه ولأنك – في واقع الأمر – لست مركز الكون، فأخشى أن معظم ما تراه يعد نظرة قاصرة تحاول أن تختصر كل شيء في قصة واحدة.
ولكن إذا جردنا الآخرين من جدوى تصوراتهم فكيف نثق فيما يخبروننا به عن أنفسهم وعن العالم؟
ثمرة المعرفة والمنطق تتجلى في قدرة الناس على الحكم وليس على سرد الآراء. فمن أجل أن تسرد رأيا فكل ما تحتاجه أن تصبغ كل شيء بصح أو خطأ، ومناسب أو غير مناسب معتمدا في ذلك على هويتك وعاداتك، ولكن الحكم يتطلب جمعا للمعلومات دون تحيز إلى ما يعجبك منها وتحليل الأحداث كما هي لا كما تشتهي أن تكون، ومن ثم تقييم المحيط بنظرة تشمل كل زاوية ممكنة ولا تقتصر على النافذة التي ترى منها.
فحين تسرد رأيا في الغالب تجعل ذاتك مصدر المعرفة وتجربتك طريقة التحليل. ولكن لكي تصدر حكما، تحتاج إلى أن تتخلص من مركزيتك وأن تجعل الآخرين هم مصدر الرؤية وأن تستند إلى معيار ثابت لا يتأثر بلون أو جنس من يستخدمه لتصل إلى نتيجة لا تتأثر بتصوراتك المسبقة.
أرسطو كان فيلسوفا وحين نظر إلى السماء استخدم رؤيته ليقول بأن الأرض هي مركز الكون. ولكن كوبرنيكوس كان عالما لم يقتنع بالحيز المتاح أمامه وظل يعمل لسنوات بحثا عن معادلة رياضية تفسر علاقة الأرض بالشمس بعيدا عما تراه عيناه.
بالمناسبة: ما رأيك في هذا المقال؟