الرأي

جدليّة (التغريب) وحقيقته

وحيد الغامدي
في سياق الجدل الفكري والديني الفريد من نوعه في المملكة، لا تزال مفردة (التغريب) تأخذ تضخمها في الخطاب المحافظ بصورة هجومية على أي تغيير ممكن في الفضاء الاجتماعي، ضاربة عرض الحائط بكل حاجات المجتمع الملحة، والتي فرضها واقع معاصر بات الجيل الجديد يجد حيرة بالغة في إيجاد مواءمة ممكنة تكفل له الانسجام مع هذا الواقع، وفي نفس الوقت يحاول إيجاد مخارج منطقية تجاه جملة من المحددات التي زُرعت في ذهنه وتجذرت، دون أن يضع زارعوها أي إمكانية لإنشاء أي (مخرج طوارئ) مستقبلي يكفل الخروج الآمن من حيرة التجاذبات بين الاحتياجات وتلك القناعات بدون الحاجة إلى (كسر الأبواب).

مفردة (التغريب) تستمد طاقتها الكامنة من خلال الحشد الدعائي الذي تم خلال عقود مضت، وتم به تلوين التصورات العامة بلون محدد، فنتجت جراء ذلك التلوين إعادة تشكيل جغرافية الثقافة الاجتماعية ورسم الوعي الجمعي بطريقة تجعل أي محاولة للخروج عن ذلك الإحلال الذي فرضته ظروف زمن الصحوة سقوطا في دلالة ذلك المصطلح / التغريب؛ وبالتالي خروجا عن (الهُوية) التي أعيدت صياغة حدودها وتشكيل معالمها وفق محددات وأدبيات تلك المرحلة ووعيها الذي تمدد في الفضاء العام، دون أي منافسة مكافئة؛ حيث مرحلة الخطاب الواحد والرأي الواحد، ودون وجود لأي خطاب آخر يمتلك نفس المقدار المناسب من الفحولة الصوتية التي كان يمتلكها خطاب الصحوة في ذلك الوقت.

تعتمد لعبة المصطلح في الخطاب الصحوي على ذات اللعبة التي تستخدمها أي منظومة مذهبية في ابتكار شعاراتها العقائدية، ووضعها كمعايير لتقسيم الناس من خلالها؛ واضعة بذلك نفسها في أعلى القمة الهرمية المتميزة في الدين الإسلامي، بعد أن يتم الجزم بها كمعايير تأخذ صفة الحقائق التي لا تقبل الجدل، في مسلك لا يُفسر إلا بأنه حالة زهو بالذات وتعال نرجسي إقصائي للآخر المختلف حول طبيعة تلك الفكرة التي اتخذت في الوعي الصانع لها صفة الحقيقة المطلقة.

إن صناعة الفكرة، ثم تقسيم الناس من خلال الموقف منها، لا يمكن أن يصنع ديمومة لتلك الفكرة، حيث سيأتي الانقلاب – فيما بعدُ – من منشقين عن تلك الفكرة ذاتها، لأي ظرف من الظروف الزمنية المختلفة، وهذا ما يفسر تحلحل الأفكار والأيديولوجيات عبر التاريخ، ولهذا أيضا نشاهد يوميا الدعوات النابعة من عمق الخطاب الديني في المملكة داعيا إلى نقض تلك التصورات العتيقة، أو تجديدها.

عمل اصطلاح (التغريب) على تشكيل فزاعة مكارثية تُعلق عليها أي رغبة في مواجهة أي متغيرات يمكنها أن تعمل على زحزحة مكتسبات القناعات المتراكمة، وبذلك يمكن لهذه المفردة أن تكون ورقة دائمة ومستمرة لمواجهة أي تغيير. ولكن كيف يتم استخدام تلك الورقة تحديدا؟ ولماذا؟

تقوم استراتيجية الخطاب الصحوي في إسقاطاته المتكررة لدلالات مصطلح (التغريب) على محاولة إيقاظ قلق الهُوية، حيث آخر الحصون الوجدانية التي يمكن التمترس بها للمحافظة على ما تبقى من فصول الوصاية على الفضاء الاجتماعي فكريا في زمن جديد لم يعد يخدم تلك القبضة كما كانت سابق عهدها، فنلاحظ – مؤخرا – عدم اللجوء للنص الديني في إدارة المعركة الأزلية مع (التغيير)، بل نجد أن الأدوات المستخدمة هي إثارة مخاوف الهوية و(الخصوصية) ضمن السياق الديني الدارج، ولكن دون استخدام النص الديني تحديدا في مواجهة الفكرة المراد خصومتها، فلماذا؟

في المقال القادم سنجيب عن هذا السؤال ليتضح لنا كيف تعمل آلية الممانعة عادة، وكيف تمارس التنقل الرشيق بين المفاهيم؟ وما هي مخرجات الصناعة المفاهيمية لبعض المزايدات؟.

waheed@makkahnp.com