الرأي

«المحاكمة» مستمرة!

صالح زياد
هناك وجه شبه بين قصة المقيم العربي التي تضمنها الخبر الذي نشرته صحيفة عكاظ يوم الثلاثاء قبل الماضي، الأول من مارس 2016، بقلم محررتها في الدمام فاطمة آل دبيس، وبين رواية «المحاكمة» للروائي التشيكي فرانز كافكا (1883- 1924م)، وذلك على الرغم من الاختلاف بينهما من جهة الإخبار عن واقعة موثقة، أي حدث حقيقي، فيما ترويه الصحيفة، والإخبار عن حدث خيالي تصنعه رواية كافكا وتنسج تفاصيله. إنهما يتشابهان في تعلقهما بشخص متهم بجريمة، لا يدري ما هي، ولا تدري عنها السلطة المكلَّفة باحتجازه. وهذه غرائبية شديدة الاستبصار في رواية كافكا لحقيقة الوجود الإنساني، ولاسيما في المجتمع الحديث، وهو ما رفعها عند عدد من النقاد إلى مستوى تحفة فنية غنية بالدلالة الرمزية على استلاب الإنسان أمام سوء استخدام السلطة، وعلى تجذر الشر في المجتمع البشري، والحاجة إلى المقاومة الإيجابية.

خلاصة الخبر المروي في «عكاظ» نقلا عن صك صادر عن المحكمة أن المقيم عمل في الرياض في شركة مملوكة لـ»شخصية نافذة» بعقد لمدة عام، ثم غادر بعد نهاية العام بتأشيرة خروج نهائي لعدم رغبته في تجديد العقد وبموافقة الطرفين. وحين عاد إلى المملكة للعمل في شركة أخرى، اتهمه صاحب الشركة التي عمل بها سابقا بسرقة نصف مليون ريال، وبتزوير تأشيرة خروج نهائي، وانتهى التحقيق سريعا إلى بطلان التهمة وعدم إدانته بما نسب إليه، لكنه بقي ممنوعا من السفر بطلب من صاحب الشركة إلى الإمارة والجوازات. وتقدم المقيم بدعوى إلى المحكمة ضد الإمارة والجوازات، فبقيت منظورة في المحكمة 11 عاما، ثم انتهت بحكم نهائي من محكمة الاستئناف يقضي بأن تعوضه الإمارة والجوازات بمبلغ 463 ألف ريال، مقابل ما لحقه من ضرر.

ولا تقتصر مشكلة المقيم هنا على ضآلة التعويض الذي حصل عليه مقابل مدة المنع من السفر الذي أرغم عليه، ولا على طول أمد التقاضي، وإنما تتجاوزها إلى تكبده ذلك العناء طلبا للبراءة من جرم لا يعرفه، ولا يعرفه المحققون ولا القضاة حتى بعد صدور الحكم بتعويضه. لكأنَّه –إذن- يمثل الدور نفسه الذي صنعه كافكا في رواية «المحاكمة». فالسيد جوزف. ك. بطل الرواية موظف يعيش حياة رتيبة عادية، وفجأة يُطلب القبض عليه ومحاكمته؛ فلا يدري شيئا عن سبب ذلك، ولا يدري عنه أيضا من يكلَّف بالقبض عليه، ولا القضاة الذين يحكمون عليه، وتنتهي الرواية من دون أن يصل القارئ إلى معرفة السبب الذي أدى إلى القبض على السيد. ك. ولا طبيعة تهمته!

ولا يختلف السيد المقيم عن السيد جوزف. ك. في طلب البراءة ومعاناة البحث عنها ومقاومة الظلم. وفي حين كان الواقع يتكشف لدى كافكا عن مأساوية مخلوطة بملهاة سوداء حين يعرف جوزف. ك. أن من يبحث لديهم عن المساعدة على البراءة يعملون على تأكيد تهمته، فإن السيد المقيم وجد منفذا إلى النجاة - بعد لأي- في حكم المحكمة بتعويضه. وهذا جانب اختلاف إيجابي يحمل – دون شك - شعورا بالعدالة، لكنها عدالة لا تكتمل من دون معرفة علة الظلم الذي تعرض له، والاقتصاص من ظالمه، وهو ما لم يتحقق له، ولهذا أرى أن القضية دون هذا الاكتمال تحمل ذات المعنى الفلسفي الوجودي الذي تفيض به رواية كافكا: التساؤل عن نهاية للظلم والشر في العالم.

ومعنى ذلك أن «المحاكمة» مستمرة..

zayad.s@makkahnp.com