الرأي

كوبا من جيفارا إلى البابا

منى عبدالفتاح
لا يجيء الذكر النادر لجزيرة «كوبا» المنسية بفعل الهيمنة الأمريكية، إلا وتقودني ذاكرتي إلى سنوات الدراسة في المرحلة المتوسطة، حينما كنا أبطالا لمسرحية مدرسية عبارة عن «مونولوج» شعبي، يعالج مشكلة التغريب بين الناشئة. كنت فخورة بتأدية دور شاب يتشبه بجيفارا، لم ينتقص منه ما تلقيته من توبيخ- في المسرحية- أنا وأخرى جسدت دور شاب يرتدي الكثير من السلاسل. وكان التوبيخ المنولوجي الذي ما زلت أحفظه عن ظهر قلب ينعي حالنا ونحن نجسد غربة فكرية وفنية منسلخة عن واقعنا الذي

لا يمت إلى منطقة الكاريبي بصلة.

عادت «كوبا» إلى الأضواء العالمية قبل أربع سنوات بعد إعلانها عن نشر «مذكرات مقاتل» التي احتفظ بها إرنستو تشي جيفارا خلال الكفاح المسلح الذي خاضه برفقة فيدل كاسترو قبل أكثر من نصف قرن. تحكي تلك المذكرات عن تجارب الثائر جيفارا الذي أصبح رمزا للثورة والثوار في مختلف أنحاء العالم.

خلال هذه السنوات الأربع تغيرت عوالم وانهارت ديكتاتوريات وما زالت تذهب في اتجاه التغيير سياسات ظلت لفترة من الزمن كقناعات. وفيما يبدو أن النظرة إلى الولايات المتحدة بوصفها منارة للحرية آخذة هي أيضا في التلاشي، عندما بدأت أخيرا تدير ظهرها للشعوب المنكوبة وتصافح حكامها الديكتاتوريين. هذا التغير المفاجئ في سياسة الولايات المتحدة التي كسرها الرئيس أوباما بالتصالح مع نظام كاسترو المعادي لبلاده، تم في الحادي عشر من أبريل الماضي خلال اللقاء بينه ونظيره الكوبي راؤول كاسترو، على هامش القمة السابعة للدول الأمريكية. وقد قال أوباما على إثر ذاك اللقاء «بعد خمسين سنة دون أي تغيير في السياسة الأمريكية تجاه كوبا، فكرت في أن الوقت حان لتجربة خيارات أخرى».

قد يكون آلم أوباما قرب المسافة بين الولايات المتحدة وكوبا التي وقفت بين فرصهما للتقارب، حواجز الأيديولوجيا الصلبة. وكأنه يزجي مزيدا من الاعتذار عندما ذكر أن فرض أمريكا حصارها الاقتصادي والمالي على كوبا كان بعد مولده بسنة واحدة، أي منذ 22 أكتوبر 1962، عندما تحركت الولايات المتحدة لإزاحة حكومة الرئيس السابق «فيدل كاسترو» الاشتراكية والتي رأت فيها واشنطن تهديدا كبيرا لمصالحها في المنطقة. تبع قطع العلاقات الديبلوماسية فرض قيود على عدد من الصادرات الكوبية إلى السوق الأمريكية مما أصاب الاقتصاد الكوبي في مقتل.

هذا الكسر الخارق جاء بعد ربع قرن من الانفراج النسبي البطيء في العلاقات بين واشنطن وهافانا وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أكبر شريك سياسي واقتصادي لهافانا، أواخر عام 1991م، دون أن يؤدي ذلك إلى تطبيع العلاقات الثنائية أو رفع الحصار الاقتصادي والتجاري الأمريكي عن كوبا.

بعد إعادة واشنطن علاقاتها الديبلوماسية، فوجئنا العام الماضي بالزيارة الأولى من نوعها والتي وصفت بالتاريخية للبابا فرنسيس إلى كوبا والتي قيل إن من شأنها تكريس جهود التقارب بين نظام كاسترو والكنيسة الكاثوليكية. كان الانفتاح الأمريكي غريبا بعض الشيء ولكنه لم يأخذ بعدا آخر غير الذي تم ذكره، ولكن بعد زيارة البابا فرنسيس بدت تنتظم بعض الأحجار على رقعة الشطرنج.

ثم اتضحت الرؤية أكثر عندما قام البابا فرنسيس (رأس الكنيسة الكاثوليكية) بزيارة أخرى إلى «كوبا» للقاء البطريرك كيريل (رئيس الأساقفة في الكنائس الأرثوذكسية) في يوم 12 فبراير الحالي. والأقواس هنا ليست للتعريف بأهم شخصيتين عالميتين حاليا، بقدر ما هي إشارة لوضع مقاربة للقاء رئيسي أكبر طائفتين مسيحيتين (الأرثوذكس والكاثوليك)، قد تكشف للمتحاربين في الشرق الأوسط أن العالم يتوحد الآن. وأهمية هذا اللقاء أنه الأول بين بطريرك من الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وبابا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، منذ الانشقاق الكبير بين مسيحيي الشرق والغرب في العام 1054م بسبب خلافات عقائدية، فإلى كم من الزمن يحتاج المسلمون حتى يتحدوا.