الرأي

الصلاة على الأموات يا مسرحيين!

أحمد الهلالي
المسرح السعودي (الغلبان) لا يدري من أين يجدها، فهل تأتيه من المناوئين الذين حرفوا مساره إلى وجهة واحدة لا يتجاوزها إلى غيرها، خاصة في (التعليم)، أم يجدها من وزارة الثقافة والإعلام حين همشته حتى صارت كلمة (مسرح) قرينة سوء، فإعلامنا يتناقل المصطلح الأمني (مسرح الجريمة) أكثر من استخدام (المسرح السعودي)، وقد وقر هذا في ذهنية المجتمع، ولا غرو أن يتبدل مسماه ـ أيضا ـ في المدارس إلى (المصلى)، لغياب الفعل المسرحي الحقيقي، بعد أن ذُبح وكُفّن وتحللت عظامه، فماذا يعني المكان بخشبته وتجهيزاته العظمية في غياب الروح؟!

قرأت الأربعاء الماضي خبر نية وزارة الثقافة تكريم بعض رموز المسرح السعودي، وإني لأرأف بحال الوزارة التي ستتعب حتى تعرف أولئك الرموز، فربما لا يوجد في قواعد بياناتها حقل لأولئك المهمشين، لكنها (والحق يقال) أعجبتني في منهجيتها والتزامها بمسار التقشف الذي أعلنته (جمعية الثقافة والفنون السعودية) قبل سنتين، فاحتاط المصرّح بخبر التكريم لذلك بتعبير (تكريم رمزي)؛ أي لا يرتفع سقف توقعاتكم عاليا أيها المسرحيون (ترانا ما نسينا) فالتقشف ضرورة تفرضها بروتوكولات الحكمة التي أجبرتكم على الهجرة بإبداعاتكم إلى خارج الوطن، والجوائز الكثيرة التي نلتموها في الكثير من المدن المسرحية العربية، ربما تكون ضد فكرة التقشف، وما (حنا ناقصين) أن تنهال علينا طلبات إقامة مهرجانات مسرحية عربية لمنافستكم في وطنكم ما دمتم لجوائزهم حاصدين.

نعم ستكرّم الوزارة المسرحيين، وستعطيهم دروعا وهم صامتون أمام الكاميرات، لا تهتز أرواحهم كاهتزازها أثناء الفعل المسرحي، ربما لأنهم يؤمنون بأن المسرحية هنا مسرحية تأبين، مسرحية عزاء في جهود رواد المسرح الذين ضخوا دماءهم وجهودهم وأموالهم ليبقى المسرح حيا، كحياة الجمرة تحت الرماد الكثيف تحرق أكبادهم ولا يراها ويحس بها غيرهم، كل أفعالهم تلك فقط للإبقاء على ذلك النبض الضعيف المتواري، فمسرح تظل رسالته المجتمعية مغيبة في ورشِه المسرحية، ثم تكفن في أرواح مبدعيها إلى المطار، ولا يفكون تلك الأكفان إلا على مسرح عربي بعيد، يقدّر تلك الإبداعات العظيمة، ثم يعودون إلى ذات المطار، بدروعهم ومراكزهم التي نالوها، فلا يلتفت إليهم بشر، ولا يستقبلهم حتى موظف بسيط يقول لهم (مبروك .. رفعتم راس الوطن) وهذه وردة من (رصيف المطار)!

كتبت الأستاذة تركية الثبيتي على صفحتها في الفيس بوك عبارة (في وطني يضحك الموت وتبكي الحياة) التي قرأتها على أحد الجدران، كانت ترن تلك العبارة في رأسي حين قرأت الامتعاض على صفحة المسرحي العربي (إبراهيم الحارثي) الذي نال الكثير من الجوائز (العربية) المسرحية، فما بالك بأستاذه فهد الحارثي (عراب المسرح)، فكتبت بأسلوب (المتفائل العقلاني) أن تفاءل يا إبراهيم، لكن أنى يكون التفاؤل والموت يضحك على مسرح التكريم الرمزي في تأبين المسرح، وأنى يأتي وحياة المسرح على وشك أن تخبو لولا هؤلاء الرجال الذين أعرف جدية الكثيرين منهم ووطنيتهم واعتزازهم برسالتهم إلى مجتمعهم، أني يتفاءلون ولا بوادر على التفاؤل حتى في تصريح (التكريم الرمزي)!

يا وزارة (الثقافة) و(الإعلام) المسرح ثقافة أصيلة بحاجة إلى (إعلام) والتكريم الحقيقي للمسرحيين لا يأتي في هذا السياق أبدا، واعتبارهم شريحة مثقفة تدور ست سنوات أو أكثر حتى يصلهم الدور الروتيني لتمنحوا عشرة منهم أو عشرين دروعا وشهادات، التكريم الحقيقي يأتي بالعناية الكاملة بهذا المنجز الوطني، فلو أحصينا المسرحيات التي فازت بجوائز عربية مرموقة، سواء على مستوى النصوص أو التمثيل أو الإخراج أو السينوغرافيا؛ لوجدنا إرثا ضخما يستحق الإبراز والحفاوة، ولما كلّف الوزارة أن تبث تلك المسرحيات على قنواتها المتعددة، وأن توصل جهد أولئك الرجال ورسالتهم الوطنية إلى كل الوطن.

ماذا ستتكلف الوزارة وفروع جمعيات الثقافة والفنون حين يستقبلون أبطال المسرح السعودي بالورد في صالات القدوم، كما يُستقبل الرياضيون الذين تواترت خيباتهم وما يزالون يُستقبلون، وماذا سيكلف الوزارة حين تجمع كل المثقفين والمبدعين والإعلاميين الذين نالوا جوائز عالمية وتكرمهم في مناسبة كبيرة كمعرض الكتاب أو سوق عكاظ أو الجنادرية أو حتى في مناسبة مستقلة، وماذا سيكلف الوزارة أن تتبنى مهرجانا مسرحيا لخمسة أيام فقط، وعلى هامشه تكرّم مبدعي المسرح، وماذا سيكلفها حين تنشئ مسارح حديثة، وتبتعث مسرحيين ومخرجين في دورات خاصة لتطوير الفعل المسرحي؟!

أسئلة وأسئلة ترن في جمجمتي، وأقول في نفسي لو كنت مسرحيا (ولم أكن ولله الحمد)؛ فذلك يورث عبرة أبي ذؤيب (عبرة لا تقلع)، أقول (لو كنت مسرحيا) فإني سأفكر عميقا جدا قبل أن أعتلي منصة التأبين، وأستلم (شاهد قبر) أضعه على مكتبي، كلما نظرت إليه قال: (رحم الله المسرح) وجبر مصابكم يا مسرحيين!