فاجعة موت القلم
الخميس / 23 / جمادى الأولى / 1437 هـ - 21:45 - الخميس 3 مارس 2016 21:45
الحسرة تلف ملامح الأوراق، والمحابر تذرف حبرها بحزن شديد، و»المحاية» تدور بنشاط في محاولة منها لإزالة بعض ما علق بأعين وجباه الحاضرين من خرابيش وشحوب.
الدباسة ارتدت السواد، وأخفت لمعة دبابيسها، في محاولة منها لإظهار مشاعرها بليونة أكثر، فلعلها تقنع الآخرين بأن جفافها ليس طبعا بقدر ما هو عمل تزاوله لحفظ الأصول.
الخرامة أغلقت فمها متصنعة الحزن، غير أن الجميع لم يصدقوها، وظلوا ينظرون إليها بحقد، على قدر ما خرمت من قلوب وصدور.
الدبوس ظل يدور نشيطا على رجله الحادة بين صفوف المعزين، فلعله يلتقط ما يقولون، وربما يتمكن من تثبيت بعض الحقائق وربطها في عالم الواقع.
الأقلام «الناشفة» بادرت بحفر القبر بجلافتها المعهودة، أما السائلة الباذخة فاصطفت على الركن البعيد الهادئ، وهي تخشى على ألوانها ولمعتها من الغبار، ودون حتى أن تخلع قبعاتها، بل إن بعضها استمر في النظر إلى ساعته بتأفف.
للفقيد الجنة، فقد كان قلم رصاص متواضعا جريئا، لا يستخدم «محايته» كثيرا، ولكن سعادة الطامس الأبيض كان يجبره مرات على تزييف الواقع، ليعاود الكتابة بطرق معوجة، وخوفا من معالي المقص الأعظم.
الجمع اليوم عظيم، ومظاهر الحزن الشديد تغطي وجوه زملاء رحلته من أقلام الرصاص، فتراهم يدمعون، وهم يحملون نعشه بتدافع فوق أسنانهم إلى مثواه الأخير.
رحمه الله، لقد كان يعشق الرسم و»الشخبطة»، والخروج عن المألوف قدر استطاعته، ودون أن يعرض أعماله للمنع، فيستمر في البوح الحر، بين جموع الورق والأقلام، وعموم الأدوات القرطاسية والمكتبية ودون تكلف أو نفاق، ودون أن تنكسر سنه التي كان يحرص أن تكون طبيعية، فلا تخرق الورق، ولا تكون سطحية.
كتاباته كانت مثار الجدل، فكان يستعين بالرمز، والخيال، والتشبيه.
رحمه الله، لقد كان ناحل العود، عفيف النفس، وكانت «محايته» سوداء لكثر ما يمسح من سطور، ورغم أن «البراية» تنهكه كثيرا، إلا أن سنه تزداد حدة، رغم غلظ حروفه.
في طرف المقبرة ورقة تنوح وتتلوى، فقد كان يعشقها ويبوح لها بصدق، وهي تمجد كل حروفه، فهو في نظرها قلم العصر، وكان يعتبرها قارورة حبر، حتى إن الإشاعات تقول إن علاقتهما كانت أكثر عمقا وحميمية مما يظهر لأعين القراء.
منظر تجمع عموم أدوات الكتابة لم يعد مستغربا، فهو يحدث كلما مات قلم.
وكم تحدث فيه من المجاملات، والكذب، والمهايطة، وفيه حديث عن تكريم تأخر، وعناية ورعاية لا تتم، وتنطلق بعدها فيضانات المقالات، تتباكى وتنعى، وتذكر محاسن الراحل؛ ثلاثة أيام أو خمسة، ثم لا تلبث أن تطوى الصحف، وأن يصبح القلم الفقيد مجرد ذكرى.
الموت علينا حق، فالقلم منا لا يمتلك أن يستمر حينما ينفد مداده. وعندما يرحل القلم، ستجد ألف من يلوم وينعى، وتظل «الطاسة» ضائعة، فلا هيئة للمبدعين تهتم، ولا وزارة للأقلام يهمها رحيل أحد، إلا عندما يكون من الأقلام المذهبة، والتي تدوم بواسطتها «متفشخرة» متزينة، وهي لا تعرف طعم الحبر الحقيقي.
وما يزيد الحزن عمقا أن أقلام الفقيد الصغار يحضرون الدفن باكين، وتتم «الطبطبة» على رؤوسهم، ثم سرعان ما يتم بريهم بالنسيان.
رحم الله قلمنا الراحل محمد البريدي.
الدباسة ارتدت السواد، وأخفت لمعة دبابيسها، في محاولة منها لإظهار مشاعرها بليونة أكثر، فلعلها تقنع الآخرين بأن جفافها ليس طبعا بقدر ما هو عمل تزاوله لحفظ الأصول.
الخرامة أغلقت فمها متصنعة الحزن، غير أن الجميع لم يصدقوها، وظلوا ينظرون إليها بحقد، على قدر ما خرمت من قلوب وصدور.
الدبوس ظل يدور نشيطا على رجله الحادة بين صفوف المعزين، فلعله يلتقط ما يقولون، وربما يتمكن من تثبيت بعض الحقائق وربطها في عالم الواقع.
الأقلام «الناشفة» بادرت بحفر القبر بجلافتها المعهودة، أما السائلة الباذخة فاصطفت على الركن البعيد الهادئ، وهي تخشى على ألوانها ولمعتها من الغبار، ودون حتى أن تخلع قبعاتها، بل إن بعضها استمر في النظر إلى ساعته بتأفف.
للفقيد الجنة، فقد كان قلم رصاص متواضعا جريئا، لا يستخدم «محايته» كثيرا، ولكن سعادة الطامس الأبيض كان يجبره مرات على تزييف الواقع، ليعاود الكتابة بطرق معوجة، وخوفا من معالي المقص الأعظم.
الجمع اليوم عظيم، ومظاهر الحزن الشديد تغطي وجوه زملاء رحلته من أقلام الرصاص، فتراهم يدمعون، وهم يحملون نعشه بتدافع فوق أسنانهم إلى مثواه الأخير.
رحمه الله، لقد كان يعشق الرسم و»الشخبطة»، والخروج عن المألوف قدر استطاعته، ودون أن يعرض أعماله للمنع، فيستمر في البوح الحر، بين جموع الورق والأقلام، وعموم الأدوات القرطاسية والمكتبية ودون تكلف أو نفاق، ودون أن تنكسر سنه التي كان يحرص أن تكون طبيعية، فلا تخرق الورق، ولا تكون سطحية.
كتاباته كانت مثار الجدل، فكان يستعين بالرمز، والخيال، والتشبيه.
رحمه الله، لقد كان ناحل العود، عفيف النفس، وكانت «محايته» سوداء لكثر ما يمسح من سطور، ورغم أن «البراية» تنهكه كثيرا، إلا أن سنه تزداد حدة، رغم غلظ حروفه.
في طرف المقبرة ورقة تنوح وتتلوى، فقد كان يعشقها ويبوح لها بصدق، وهي تمجد كل حروفه، فهو في نظرها قلم العصر، وكان يعتبرها قارورة حبر، حتى إن الإشاعات تقول إن علاقتهما كانت أكثر عمقا وحميمية مما يظهر لأعين القراء.
منظر تجمع عموم أدوات الكتابة لم يعد مستغربا، فهو يحدث كلما مات قلم.
وكم تحدث فيه من المجاملات، والكذب، والمهايطة، وفيه حديث عن تكريم تأخر، وعناية ورعاية لا تتم، وتنطلق بعدها فيضانات المقالات، تتباكى وتنعى، وتذكر محاسن الراحل؛ ثلاثة أيام أو خمسة، ثم لا تلبث أن تطوى الصحف، وأن يصبح القلم الفقيد مجرد ذكرى.
الموت علينا حق، فالقلم منا لا يمتلك أن يستمر حينما ينفد مداده. وعندما يرحل القلم، ستجد ألف من يلوم وينعى، وتظل «الطاسة» ضائعة، فلا هيئة للمبدعين تهتم، ولا وزارة للأقلام يهمها رحيل أحد، إلا عندما يكون من الأقلام المذهبة، والتي تدوم بواسطتها «متفشخرة» متزينة، وهي لا تعرف طعم الحبر الحقيقي.
وما يزيد الحزن عمقا أن أقلام الفقيد الصغار يحضرون الدفن باكين، وتتم «الطبطبة» على رؤوسهم، ثم سرعان ما يتم بريهم بالنسيان.
رحم الله قلمنا الراحل محمد البريدي.