فلنتعلم من التاريخ!
الخميس / 23 / جمادى الأولى / 1437 هـ - 21:30 - الخميس 3 مارس 2016 21:30
في كتابه (المثقفون في الحضارة العربية) كتب المرحوم محمد عابد الجابري: «كان أدلار دي باث (في القرن الـ12) مترجما من العربية إلى اللاتينية، وكان فيلسوفا في الوقت نفسه. سأله رجل تقليدي ذات يوم أن يدخل معه في مناقشة حول الحيوانات، فرد عليه قائلا: من الصعب علي أن أتحدث معك عن الحيوانات، فأنا تعلمت من أساتذتي العرب اتخاذ العقل هاديا ومرشدا، في حين أنك قانع بالخضوع لسلطة مخرفة (الكنيسة) خضوع أسر وعبودية».
ثم يسترسل الجابري معلقا على مثال آخر: «ويشتكي مثقف آخر من هؤلاء المثقفين الحداثيين في القرن الـ12 الميلادي، يشتكي من الاختناق الذي كان يسود البلاد المسيحية ومن اضطهاد رجال الكنيسة للمفكرين الأحرار، مما جعله يفكر في الرحيل إلى أرض العرب، حيث الحرية الفكرية مكفولة. يقول بيير أبيلار: الله يعلم كم مرة فكرت، تحت ضغط يأس عميق، في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو الوثنيين (كذا، أي المسلمين) للعيش هناك في سلام، دافعا الجزية لأعيش مسيحيا بين أعداء المسيح. اهـ.
هكذا إذن كانت الحالة الأوروبية في العصر الوسيط، هي ذاتها الحالة العربية المعاصرة، وهي ذاتها المشاعر التي تنتاب المفكر العربي الذي يواجه سلطات عدة تحد من مهامه في نشر رسالته الإنسانية والتنويرية. لن أتحدث عن الدرس التاريخي الذي يثبت تداول الأيام وسننية التبدل الحضاري، بل عن لغة دارجة ومنظومة تحاول أن تتعلق زيفا بمجد الحضارة العربية والإسلامية وتدعو إلى إعادة سلطانها دون أن تدري أن خطابها الجماهيري يقف على الضد من تلك الحضارة وأدبياتها، ودون أن تدري أيضا أنها حين تبكي على الأندلس مثلا فهي تحمل في خطابها ذات البذور التفكيكية التي تلعب على الانقسامات المذهبية ذاتها التي عملت سابقا على إسقاط الأندلس وغيرها.
الحديث عن مجد الحضارة العربية والإسلامية يجب ألا يكون أبدا من نصيب تيارات ومناهج درجت على مقاومة العناصر المكونة للعملية الحضارية، وأهمها عنصر (العقل) الذي كان المحرك الأساس للحضارة العربية، ثم الحضارة الغربية لاحقا. لن يعادي العقل والمنطق والفلسفة والفنون إلا أعداء العملية الحضارية والنهضوية، وخصوم النزعة الإنسانية التي تؤسس للارتقاء، ومن ثم البقاء.
يتحدث الجابري أيضا عن (الرشديين اللاتين) وهم الذين تلقفوا فلسفة ابن رشد وانتسبوا لها مواجهين بها واقعهم المتردي آنذاك، في حين أننا نجد اليوم مطالبات بإلغاء أي تسمية للمدارس أو المستشفيات التي تشير إلى فلاسفة المجد العربي، كابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم، فهذا زنديق وذلك (رافضي) والثالث كذا وكذا من التصنيفات التي لا يملكون سوى أدبياتها المضادة لأي تحرك نحو النهضة، فلا أفهم عن أي مجد سابق يتحدثون؟ وأي خلافة ينشدون أو يحلمون؟.
أعتقد أن تدريس سير أولئك الأفذاذ لطلاب المدارس، على شكل (صور من حياة الفلاسفة)، أو (سير أعلام النابهين) قد بات متطلبا ضروريا لإيصال (مجرد الهم النهضوي) للأجيال القادمة، فضلا عن البدء في أي عملية حقيقية لتنشئة جيل نهضوي كتدريس الفلسفة مثلا.
قد نكتفي فقط بإيصال سيرة هؤلاء للناشئة، ومقارنة الواقع الحضاري الأوروبي بما كان عليه حين تلقف متعطشا الفلسفة والمعارف العربية وبدأ بالبناء عليها. أعتقد أن هذا المسلك أجدى كثيرا من الاكتفاء بزراعة الكراهية وترسيخ نظرية المؤامرة. هذا المستوى البسيط من البث الرسالي لبذور القيم الحضارية والنهضوية يمكن أن يزرع همومها التي (قد) تنضج في ملامح جيل قادم.
waheed@makkahnp.com
ثم يسترسل الجابري معلقا على مثال آخر: «ويشتكي مثقف آخر من هؤلاء المثقفين الحداثيين في القرن الـ12 الميلادي، يشتكي من الاختناق الذي كان يسود البلاد المسيحية ومن اضطهاد رجال الكنيسة للمفكرين الأحرار، مما جعله يفكر في الرحيل إلى أرض العرب، حيث الحرية الفكرية مكفولة. يقول بيير أبيلار: الله يعلم كم مرة فكرت، تحت ضغط يأس عميق، في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو الوثنيين (كذا، أي المسلمين) للعيش هناك في سلام، دافعا الجزية لأعيش مسيحيا بين أعداء المسيح. اهـ.
هكذا إذن كانت الحالة الأوروبية في العصر الوسيط، هي ذاتها الحالة العربية المعاصرة، وهي ذاتها المشاعر التي تنتاب المفكر العربي الذي يواجه سلطات عدة تحد من مهامه في نشر رسالته الإنسانية والتنويرية. لن أتحدث عن الدرس التاريخي الذي يثبت تداول الأيام وسننية التبدل الحضاري، بل عن لغة دارجة ومنظومة تحاول أن تتعلق زيفا بمجد الحضارة العربية والإسلامية وتدعو إلى إعادة سلطانها دون أن تدري أن خطابها الجماهيري يقف على الضد من تلك الحضارة وأدبياتها، ودون أن تدري أيضا أنها حين تبكي على الأندلس مثلا فهي تحمل في خطابها ذات البذور التفكيكية التي تلعب على الانقسامات المذهبية ذاتها التي عملت سابقا على إسقاط الأندلس وغيرها.
الحديث عن مجد الحضارة العربية والإسلامية يجب ألا يكون أبدا من نصيب تيارات ومناهج درجت على مقاومة العناصر المكونة للعملية الحضارية، وأهمها عنصر (العقل) الذي كان المحرك الأساس للحضارة العربية، ثم الحضارة الغربية لاحقا. لن يعادي العقل والمنطق والفلسفة والفنون إلا أعداء العملية الحضارية والنهضوية، وخصوم النزعة الإنسانية التي تؤسس للارتقاء، ومن ثم البقاء.
يتحدث الجابري أيضا عن (الرشديين اللاتين) وهم الذين تلقفوا فلسفة ابن رشد وانتسبوا لها مواجهين بها واقعهم المتردي آنذاك، في حين أننا نجد اليوم مطالبات بإلغاء أي تسمية للمدارس أو المستشفيات التي تشير إلى فلاسفة المجد العربي، كابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم، فهذا زنديق وذلك (رافضي) والثالث كذا وكذا من التصنيفات التي لا يملكون سوى أدبياتها المضادة لأي تحرك نحو النهضة، فلا أفهم عن أي مجد سابق يتحدثون؟ وأي خلافة ينشدون أو يحلمون؟.
أعتقد أن تدريس سير أولئك الأفذاذ لطلاب المدارس، على شكل (صور من حياة الفلاسفة)، أو (سير أعلام النابهين) قد بات متطلبا ضروريا لإيصال (مجرد الهم النهضوي) للأجيال القادمة، فضلا عن البدء في أي عملية حقيقية لتنشئة جيل نهضوي كتدريس الفلسفة مثلا.
قد نكتفي فقط بإيصال سيرة هؤلاء للناشئة، ومقارنة الواقع الحضاري الأوروبي بما كان عليه حين تلقف متعطشا الفلسفة والمعارف العربية وبدأ بالبناء عليها. أعتقد أن هذا المسلك أجدى كثيرا من الاكتفاء بزراعة الكراهية وترسيخ نظرية المؤامرة. هذا المستوى البسيط من البث الرسالي لبذور القيم الحضارية والنهضوية يمكن أن يزرع همومها التي (قد) تنضج في ملامح جيل قادم.
waheed@makkahnp.com