الرأي

إعلامنا في خدمة من؟

الخطاب الإعلامي وتوجه الصحافة والفضائيات السعودية أحد أبرز القضايا التي تثير عراكا دوريا عند كل قضية. في الأيام الماضية ظهر هاشتاق «إعلاميون يخدمون أعداءنا» على هامش فيلم عرضته قناة العربية «حكاية حسن». ما يلفت النظر هو هذا الاستحضار المتكرر لحكاية الخيانة والتهم بأن هذا الإعلام ضد المصالح الوطنية، وبأن هناك إعلاميين يخدمون الأعداء.

صياغة هذا العنوان أحد أساليب الخطاب المنبري والوعظي الذي يقرر جملا ضخمة ومدلسة تصلح لأكبر خيانة وأصغر خطأ مهني. استعمال جملة «يخدم الأعداء» تقوم بالواجب التشويهي من خلال كلمة الأعداء الهلامية دون أي معنى حقيقي لها، وبالوقت دون مسؤولية قانونية، فخدمة الأعداء جملة مطاطية يمكن أن تقال حتى ضد أي برنامج ترفيهي أو سطحي.

من حق الجميع نقد ما يقدمه إعلامنا في الصحف والفضائيات، لكن مشكلة هذا النوع من النقد ذي النزعة المحافظة أنه امتداد لخطاب قبل أكثر من ربع قرن، وفتاوى تحريم شراء بعض المجلات والصحف هو من النوع الذي لا يراكم الوعي الحقيقي، بقدر ما يراكم الأوهام ويغالط في رؤية الواقع. هذه العراكات تدور أغلبها بين رؤية محافظة إسلامية بمختلف أطيافها مقابل خطاب صحفي وإعلامي تشكل منذ أكثر من نصف قرن تحت المظلة الرسمية.

كل تطورات نشوء الإعلام السعودي وامتداداته الحديثة لها مسار واضح ويمكن تحديد شخصيته الحالية ونوعية خطابه، فطبيعة الإعلام المحلي منذ تأسيسه هو في إطار الإعلام التنموي، الذي يخدم عملية التنمية، وهو مفهوم ظهر منذ خمسينات القرن الماضي، حيث يشارك الإعلام في عملية التغيير الاجتماعي عبر الإذاعة والتلفزيون والصحافة في المجتمعات النامية، ولهذا كان ولا يزال الإعلام السعودي في كل تطوراته تحت هذا الأفق المحلي الرسمي، بعيدا عن الصراعات الفكرية والسياسية العميقة، وحتى عندما انتقل لتجربته الفضائية العربية منذ التسعينات فقد استمر تحت هذا الأفق الوطني بصورته شبه الرسمية.

ولهذا فمن الناحية التاريخية فالإعلامي السعودي هو من أكثر الفئات المحلية تشبعا بالفكر الحكومي الرسمي وخدمته وارتباطا عمليا به، فما إن يبدأ الصحفي حياته المهنية إلا ويتشبع بالخطاب الرسمي وتقاليده، من خلال تغطية أخبار المحليات وأخبار المناسبات الرسمية وتغطية هموم وقضايا الوطن بمختلف مناطقه، ولهذا فهذا النوع من التهم التخوينية الوطنية الكبيرة لمؤسسات إعلامية يفتقد للمنطق وهو أقرب للاستعباط والاستخفاف بالوعي العام.

ومع أنه قد توجد مساحة مهما كان حجمها تظهر فيه بصمات الإعلامي نفسه في تقديم الرسالة الإعلامية، لكنها لا يمكن أن تصل إلى حجم مثل التهم التي يقدمها البعض، ولهذا يبدو واقعيا تصنيف توجهات الصحف والفضائيات المحسوبة على السعودية هو في فروقات شكلية وليست عميقة.

مقابل هذا ما هو أفق الرؤية المحافظة مع كوادرها الإعلامية التي نشأت متأخرة وما زالت تؤثر على شخصيتها؟ كان الموقف الديني سلبيا جدا من الإعلام منذ البدايات المحلية، فمحاربة التلفزيون بقناته الأولى.. شكلت أكبر تحد للخطاب الوعظي والفقهي والتحذيري منه في تلك المرحلة، قبل أن ينهزم تقنيا بعد انتشار الفضائيات، ولهذا تأخر ظهور أجيال إسلامية تشكل مدرسة إعلامية يمكن القياس عليها، وعطل هذا المسار مشاكل فقهية كحكم التصوير والصورة، وقد تأخر في تجاوز عقدتها الفقهية، أما الموسيقى فما زالت تقيده بالإضافة إلى مسألة ظهور المرأة ولو محتشمة.

وجدت مجلة الدعوة مبكرا وإذاعة القرآن التي يمكن اعتبارهما تحت المظلة الرسمية والإطار الوطني. لكنهما لم تكونا مؤثرتين جذريا في تشكيل الوعي الحركي الذي سيقود عصر التغيير والنقلة الدينية الجديدة عبر الكاسيت، وكان ينظر لهما بدرجة أقل وأنهما مقيدتان. ولهذا أستطيع القول بأن الإعلام الإسلامي المحلي نشأ خارج رحم الرسمية، وأكثر تحررا من الرسمية عبر الكاسيت والمجلات الخاصة به، وقد شكل الكاسيت في عصره الذهبي أهم قناة تغيير اكتسحت المجتمع خلال أكثر من عقد بين منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات، وفاقت المؤسسات الإعلامية التقليدية بالتأثير نظرا لمساحة الحرية في خطاب الكاسيت وصعوبة السيطرة على خطابه، مما جعله أكثر جاذبية حتى من الوعظ في القنوات الرسمية.

انتهت هذه المرحلة منذ أكثر من عقد ونصف مع حالة التشتت الذي حدثت للجميع، ولم يكرر الإعلام الإسلامي مرة أخرى نجاح الكاسيت الذي توافرت معه عوامل تاريخية عديدة خاصة فيه. واليوم وبالرغم من وجود العديد من القنوات الإسلامية والمواقع والنشاطات الإعلامية إلا أنها ظلت في مسارها الخاص، وأقل تأثيرا ولم تخترق المجتمع المنفتح على العالم بكل قنواته.

لقد ظل الإعلام الإسلامي المحلي أفقه دعويا وتبشيريا مهما تعددت وسائله وبرامجه وحتى مع كل التحولات التي حدثت، ولهذا لم ينجح حتى الآن في بناء صوت عقلاني يصل لكل أطياف المجتمع بعيدا عن الحشد والتعبئة ولو حتى موقع انترنيتي! ولأن الخطاب الإسلامي عالمي بطبيعته في إطار الدعوة للإسلام وقيمه، فقد ظل أفق خطاب الإسلامي أكبر من أفق الوطنية التي تميز الإعلامي التقليدي السابق، وهذا ليس تشكيكا بوطنيته لكن لفهم طبيعة تشكلات هذا الوعي. دخلت مفردة الوطنية متأخرة في هذا الخطاب وقنواته عبر تقديم بعض الأناشيد، والحديث عن الوطن، لكنه جاء تحت ظروف طارئة مع إشكاليات الإرهاب مما أربك خطابه الدعوي، في إقحام مفردة شاذة فقهيا عنه. لا يجد الصحفي والإعلامي السعودي الذي نشأ داخل هذه المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية إلا أفق الوطن وخطاب الوطنية الرسمي في أي مجال، الثقافي أو الاجتماعي والرياضي، بعكس الإعلامي الإسلامي الذي نشأ خارج هذه المؤسسات ولا يزال يعمل خارجها!