الرأي

جدة غير

محمد أحمد بابا
قبل سنوات ابتكر أهل الدعاية والإعلان شعارا لمهرجان بمدينة جدة يتسم بالعفوية والذكاء واللهجة الحجازية في آنٍ واحد، فأطلقوا على هذه المدينة الصاخبة «جدة غير» يرمون بذلك إلى اختلاف كبير بينها وبين ما تعود عليه الناس في مدن أخرى بالسعودية رغبة في جذبهم للسياحة فيها وتشجيع الاقتصاد الاستهلاكي بشكل عام.

والحق يقال «جدة بالفعل غير» وتكمن تلك الغيرية بالنسبة لي في مشاهد وممارسات لا أعلم ـ أنا على الأقل ـ بأنها ظاهرة في أماكن أخرى غيرها، جعلني ذلك أتوقع بأن لهذه المدينة مسطرة اجتماعية وسلوكية مغايرة تماما لمقاييس المدن الرئيسية في المملكة ولو كانت تفوق جدة من حيث عدد السكان أو المساحة أو حتى الأهمية.

لست هنا بصدد تحليل مظاهر ذات أبعاد كبيرة يتطرق لها من هم أفقه مني تنظيرا وتوصيفا، ولست هنا أيضا بصدد وضع حلول ولا علاجات ناجعة لمشكلات أعيت المواطن قبل المسؤول وأفسدها الناس واستعصت على العطارين والمنجمين والأطباء، ولكني أهذي بما رأيته وراقبته وأنا أسير في شوارع جدة وأمارس طقوسي اليومية مثل مئات الآلاف الكادحين بها.

في جدة بدا واضحا بأن البلدية ترى بأن الاهتمام بالشوارع والطرقات ذات الاكتظاظ والارتياد الدائم من السكان والزائرين وتعبيدها وصيانتها وفك اختناقاتها لا يحقق الأهداف المرجوة من استراتيجية العمل فجعلت ذلك من آخر أولوياتها وفرغت الكثير من جهدها وعملها لاقتناص الفرص للظهور الإعلامي بشكل لائق في كل مناسبة وأية فعالية لتتحدث عن علاجها المرتقب لمشكلة السيول.

في جدة تغض الإدارة المعنية بمكافحة التسول الطرف عن مواقع بعينها مثل إشارات المرور والأسواق الكبيرة رغم أن نظيراتها في مكة والمدينة تتابع هذه الفئة حتى في الطرق والشوارع المؤدية للحرمين الشريفين، وتنحو إدارات أخرى معنية بمتابعة الباعة المتجولين هذا المنحى نفسه رغم أنها في مدن أخرى تمنع نساء يبعْن الخردوات من استمرارهن في هذا العمل.

في جدة يساهم الفقراء في المحافظة على البيئة بطريقة غير مقصودة يتبنى زمام أمرها نسوة يرتدين حجابا ساترا للغاية يشرفن على مجموعة من الصغار من الجنسين يبحث الجميع في الحاويات المخصصة للمخلفات والقمامة بمهنية ودراية عاليتين، يجمع هؤلاء خلال ذلك الكثير مما خف حمله وأمكن الاستفادة منه مستخدمين في حملها عربات للأطفال أصلا في منظر لا يحاكيه أي مشروع اجتماعي أو اقتصادي بمدينة من المدن الأخرى.

في جدة يتجاور محلان تجاريان لبيع الوجبات الجاهزة والخفيفة ورغم تشابه المحلين في بيع الوجبات نفسها وتشغيل الجنسيات نفسها واستخدام الأدوات والمواد ذاتها، ومع ذلك كله تجد الفارق في السعر أكبر من فارق الأسعار بين القاهرة ولندن، ولكل محل رواده ولكل بضاعة من يسومها، ولكل فرع من فروع وزارة التجارة فلسفته ووجهة نظره.

في جدة مؤسسات تعليمية أهلية كثيرة ومنتشرة في شتى الأحياء، وبعضها لولا تلك اللوحة الموضوعة على أحد حوائط المبنى لظننت بأنك أمام بيت لأدنى المواطنين دخلا ولأشفقت على صاحبه ووددت لو قدمت له المساعدة لترميمه وإعادة تأهيله ليصلح للاستخدام الآدمي، مع أن هناك من أخبرني بأن مواطنة في مدينة أخرى أعياها الصبر وهي تنتظر تصريحا لمشروعها التعليمي المتواضع بسبب اشتراطات إدارة التربية والتعليم والدفاع المدني والبلدية.

في جدة تقف السيارة الفارهة موديل 2016 ذات الماركة الألمانية أو الأمريكية وتجري تحتها فيضانات من مياه الصرف الصحي عالية التلوث، بسبب امتلاء «بيارة» أحد الجيران ورفضه العمل على تفريغها ودفع أجرة سيارات الشفط، دون أن يخشى من مخالفة الأنظمة، ولا من غرامة مالية من المفترض أن تلزمه، فضلا عن أن يكون لديه شعور عادي بأن للرائحة نصيبا من تعكير الأمزجة والنفوس، مع أنه في محافظة أخرى يغرم صاحب البيت الشعبي المتهالك لأن ماسورة الماء الصالح للشرب انفجرت رغما عنه، وغسلت أوساخ شارعه البسيط بماء لطف أجواء الحارة.

في جدة للموت دعاية وإعلان، فلا تستغرب وأنت تسير في هدوء تشاهد لوحة كبيرة قد كتب عليها «توجد مغسلة للأموات ملحقة بالجامع الفلاني»، مع أسهم تفصيلية عريضة لهداية التائهين وكسب قلوب المفجوعين في أقاربهم، واستغرابي أنا إنما جاء لتعودي على مدينة أخرى يعرف فيها الصغير قبل الكبير بأن «الشرشورة» تعمل على مدار الـ24 ساعة في موقع لا يجهله إلا قادمٌ من خارج المنطقة.

في جدة يغيب البحر عن مرأى الناس إلا من قطع عشرات الكيلو مترات ليذهب إلى أطراف البلد حيث لا سكان ولا مباني ليحظى بنظرة تشبِع فضوله من بحر زعم كثير من السلف والخلف بأنها عروسه، ومن يقارن عرائس أخر لذات البحر الأحمر وغيره من البحور يتأكد بأن جدة من أكثرهن وأشدهن خجلا وحياء من هذا البحر الذي ضاق ذرعا غراما بها ولمّا يحظ بوصلها ولقائها بسبب عذال البناء ولائمي المشاريع.

في (خمْرة جدة) ما لعين رأت ولا خطر على بال صناعة وتصنيع، فالمصانع هناك تبيع ما أنتجته من غير ترخيص لشركات ذات سمعة تصم الآذان، وكثير من الباحثين عن فرصة استثمارية صناعية في غٰيرة مستحقة مستسلمون.

أليستْ جدة غير؟