الهيئة بين ثقافة العيب وثقافة الندم
الاثنين / 13 / جمادى الأولى / 1437 هـ - 20:45 - الاثنين 22 فبراير 2016 20:45
هذا مقال آخر عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكنك أن تضيفه إلى قائمة المقالات التي ستتجاوزها، لأنه نقاش يتكرر دون أن يترك أي أثر على أرض الواقع. ولكن إذا كنت تود أن تتناول الأمر من منظور مختلف فإني أدعوك لأن نحلق في أفق أعلى ونعود إلى آلاف السنين في تاريخ البشر لنفهم الهيئة ليس كجهاز إداري، وإنما كثقافة ينتمي إليها السواد الأعظم من المجتمع الذي يمارس أفراده الرقابة على بعضهم، اعتقادا منهم أن تصرفات الآخرين في مساحاتهم الخاصة هي أفعال تخص الجميع، وتستدعي تدخلهم من أجل تقويمها وتوجيهها نحو «المسار الصحيح». فما الذي يجعل هذه الرقابة جزءا أصيلا من سلوكنا الاجتماعي؟
في علم النفس تقسم الشخصيات من خلال نظرة أصحابها إلى علاقتهم بمجتمعاتهم إلى شخصيات متصلة وشخصيات مستقلة. فالشخصية المتصلة تنظر إلى ذاتها كامتداد لذات الجماعة التي تنتمي إليها، وتتصرف على نحو يتفق مع قيم هذه الجماعة، كما تتوقع من الآخرين أن يحافظوا على هذه القيم في تصرفاتهم الخاصة. أما الشخصية المستقلة فلا تعتبر تصرفاتها جزءا من هذه الذات الجمعية وتعمد إلى الالتفات إلى قيمها ومصلحتها المباشرة فحسب. وأحد أسباب هذا الاختلاف يعود إلى تاريخ وظروف البيئة التي ينشأ فيها كل فرد.
ففي المجتمعات القبلية التي عاش أفرادها في ذات المحيط لمئات السنين كما هو الحال في المجتمعات العربية والأفريقية والآسيوية تسود الذات المتصلة بسبب سيطرة الجماعة وقوة انتماء أفرادها وتوريث قيمها جيلا بعد جيل. وهذا التباين لا يعني أن لمجتمع أفضلية على مجتمع آخر ولكنه يعني أن سلوكيات الأفراد تتبع الثقافة التي تحكمهم. والمثير للدهشة أن هذه التبعية لا تحكم أفعالنا فحسب وإنما تحكم المشاعر التي نشعر بها نتيجة لهذه الأفعال.
ففي علم الأنثروبولوجيا تقسم المجتمعات إلى مجتمعات يسود فيها الإحساس بالعيب أو العار ومجتمعات يسود فيها الإحساس بالندم. والعار والندم كلهما ردات فعل أخلاقية يشعر بها الإنسان إذا فشل في الالتزام بقيمه الشخصية الداخلية أو بالقيم الخارجية التي يتوقعها منه بقية أفراد مجتمعه.
ورغم أن هذه المشاعر لا تناقض بعضها إلا أنها لا تحضر بذات الزخم في موقف واحد وذلك لأنها تنبع من مصادر مختلفة. فالعار شعور خارجي مصدره نظرة الآخرين و«كلام الناس» ، ويعتبر حكما يسقطه المجتمع على أفراده حتى لو اعتقدوا في داخلهم أن تصرفاتهم صحيحة ولا تخالف أي معيار أخلاقي. أما الندم فهو شعور داخلي يكون منبعه من الذات نفسها حين يعتقد كل فرد منا أنه فشل في الالتزام بما يراه سلوكا صحيحا. وفي مجتمعنا العربي الذي تسود فيه الذات المتصلة يصبح للشعور بالعار سلطة أكبر من الندم في تقرير ما يعد تصرفا منافيا للعرف والأخلاق.
ولكن سيادة العيب ليست مجرد اختيار اعتباطي بل هي حاجة نبعت من ظروفنا التاريخية. فخلال الجزء الأكبر من تاريخ حضارتنا، عاش البشر في مجتمعات صغيرة كالقبيلة والقرية يعتمد فيها مصير الجماعة على مساهمة كل فرد بأداء دوره.
ولأن تقصير فرد واحد قد يؤذي قبيلة بأكملها، نشأت ثقافة العيب لتعمل كأداة أخلاقية تضمن تعاضد المجتمع وتعاونه وتجعل أي تصرف يخل بمصلحة الجماعة ذا كلفة اجتماعية مرتفعة. وعلى مدى قرون، عملت ثقافة العيب كطوق نجاة لهذه المجتمعات التي تفتقد إلى أي شكل من أشكال السلطة القانونية والحكومية. كما أصبحت الجماعة وكيلا عن الفرد في تقرير صحة أي تصرف وبديلا عن الشعور بالندم على نتائج تصرفاتهم ما دام أنها تتبع ما اتفقت عليه الجماعة. فنظرية الوكالة (Agency Theory) تخبرنا أنه متى ما وجد الناس سلطة تنوب عنهم فإنهم يفوضون وعيهم إليها ولا يحاسبون أنفسهم على ما يقترفون ما داموا قد نجوا من قبضة هذه السلطة!
ولكن مع توسع النطاق الجغرافي للمجتمعات البشرية وزيادة عدد سكانها وتنوع مرجعياتهم الأخلاقية، فقدت ثقافة العيب وسلطة الجماعة فاعليتها في تقويم سلوك الأفراد لأن تصرف فرد واحد يضيع في زحام المدينة فيصعب الالتفات إليه أو الحكم عليه. ففي قرية صغيرة يعرف فيها كل شخص باسمه تكون عاقبة التشهير الاجتماعي الرفض والازدراء من جميع أفرد المجتمع. أما في المدن المليونية إذا فقد شخص ما مكانته في ركن من المدينة فبمقدوره الانتقال إلى ركن آخر. كما أن طبيعة المدن كأفران تصهر مختلف العادات والثقافات جعلت من الصعب الاتفاق على ما هو عيب أو غير مقبول وقللت من إحساس الخزي، فمهما يكن الفعل الذي اقترفته فلا بد من وجود من يعتقد بصحة تصرفك.
هذا التراجع في سلطة العيب أفقد عملية النصح والإرشاد باستخدام عامل خارجي قدرتها على خلق إطاري أخلاقي واحد يتسع لمجتمع بأكمله، وأوجد الحاجة إلى أدوات القانون والعقاب كتكلفة بديلة عن الضغط الاجتماعي. كما أنه ألغى الوكالة الأخلاقية مما جعل من ثقافة الندم أداة محاسبية وتربوية أكثر فعالية في إعادة الأفراد والمجتمع إلى حالتهم الأخلاقية المفترضة.
وأي مراقب للهيئة يجد أنه جهاز يقدم النصح والإرشاد في محيط اجتماعي مفتوح وبالتالي فإنه يشكل سلطة تقويم ومحاسبة خارجية تعتمد على عامل العيب وليس عامل الندم. وبغض النظر عن رأيك في الهيئة، فإن الأدوات التي تستخدمها لا تتفق مع واقع مجتمعنا الذي يزداد اتساعا وتنوعا وتضمحل فيه سلطة الجماعة على الفرد. فالبشر يغيرون تصرفاتهم استجابة لحوافزهم الداخلية أو خشية من عقاب خارجي.
وإذا اتفقنا على أن أدوات الضغط الاجتماعي على الفرد قد فقدت مفعولها، فإن حضور الهيئة في الأسواق وأوقات الصلوات قد يشكل وكالة تدفع البعض إلى تعطيل حوافزهم الداخلية إيمانا منهم أن مسؤولية تصرفاتهم تقع على الهيئة وليس عليهم.
ثقافة العيب:
في علم النفس تقسم الشخصيات من خلال نظرة أصحابها إلى علاقتهم بمجتمعاتهم إلى شخصيات متصلة وشخصيات مستقلة. فالشخصية المتصلة تنظر إلى ذاتها كامتداد لذات الجماعة التي تنتمي إليها، وتتصرف على نحو يتفق مع قيم هذه الجماعة، كما تتوقع من الآخرين أن يحافظوا على هذه القيم في تصرفاتهم الخاصة. أما الشخصية المستقلة فلا تعتبر تصرفاتها جزءا من هذه الذات الجمعية وتعمد إلى الالتفات إلى قيمها ومصلحتها المباشرة فحسب. وأحد أسباب هذا الاختلاف يعود إلى تاريخ وظروف البيئة التي ينشأ فيها كل فرد.
ففي المجتمعات القبلية التي عاش أفرادها في ذات المحيط لمئات السنين كما هو الحال في المجتمعات العربية والأفريقية والآسيوية تسود الذات المتصلة بسبب سيطرة الجماعة وقوة انتماء أفرادها وتوريث قيمها جيلا بعد جيل. وهذا التباين لا يعني أن لمجتمع أفضلية على مجتمع آخر ولكنه يعني أن سلوكيات الأفراد تتبع الثقافة التي تحكمهم. والمثير للدهشة أن هذه التبعية لا تحكم أفعالنا فحسب وإنما تحكم المشاعر التي نشعر بها نتيجة لهذه الأفعال.
ففي علم الأنثروبولوجيا تقسم المجتمعات إلى مجتمعات يسود فيها الإحساس بالعيب أو العار ومجتمعات يسود فيها الإحساس بالندم. والعار والندم كلهما ردات فعل أخلاقية يشعر بها الإنسان إذا فشل في الالتزام بقيمه الشخصية الداخلية أو بالقيم الخارجية التي يتوقعها منه بقية أفراد مجتمعه.
ورغم أن هذه المشاعر لا تناقض بعضها إلا أنها لا تحضر بذات الزخم في موقف واحد وذلك لأنها تنبع من مصادر مختلفة. فالعار شعور خارجي مصدره نظرة الآخرين و«كلام الناس» ، ويعتبر حكما يسقطه المجتمع على أفراده حتى لو اعتقدوا في داخلهم أن تصرفاتهم صحيحة ولا تخالف أي معيار أخلاقي. أما الندم فهو شعور داخلي يكون منبعه من الذات نفسها حين يعتقد كل فرد منا أنه فشل في الالتزام بما يراه سلوكا صحيحا. وفي مجتمعنا العربي الذي تسود فيه الذات المتصلة يصبح للشعور بالعار سلطة أكبر من الندم في تقرير ما يعد تصرفا منافيا للعرف والأخلاق.
ولكن سيادة العيب ليست مجرد اختيار اعتباطي بل هي حاجة نبعت من ظروفنا التاريخية. فخلال الجزء الأكبر من تاريخ حضارتنا، عاش البشر في مجتمعات صغيرة كالقبيلة والقرية يعتمد فيها مصير الجماعة على مساهمة كل فرد بأداء دوره.
ولأن تقصير فرد واحد قد يؤذي قبيلة بأكملها، نشأت ثقافة العيب لتعمل كأداة أخلاقية تضمن تعاضد المجتمع وتعاونه وتجعل أي تصرف يخل بمصلحة الجماعة ذا كلفة اجتماعية مرتفعة. وعلى مدى قرون، عملت ثقافة العيب كطوق نجاة لهذه المجتمعات التي تفتقد إلى أي شكل من أشكال السلطة القانونية والحكومية. كما أصبحت الجماعة وكيلا عن الفرد في تقرير صحة أي تصرف وبديلا عن الشعور بالندم على نتائج تصرفاتهم ما دام أنها تتبع ما اتفقت عليه الجماعة. فنظرية الوكالة (Agency Theory) تخبرنا أنه متى ما وجد الناس سلطة تنوب عنهم فإنهم يفوضون وعيهم إليها ولا يحاسبون أنفسهم على ما يقترفون ما داموا قد نجوا من قبضة هذه السلطة!
ولكن مع توسع النطاق الجغرافي للمجتمعات البشرية وزيادة عدد سكانها وتنوع مرجعياتهم الأخلاقية، فقدت ثقافة العيب وسلطة الجماعة فاعليتها في تقويم سلوك الأفراد لأن تصرف فرد واحد يضيع في زحام المدينة فيصعب الالتفات إليه أو الحكم عليه. ففي قرية صغيرة يعرف فيها كل شخص باسمه تكون عاقبة التشهير الاجتماعي الرفض والازدراء من جميع أفرد المجتمع. أما في المدن المليونية إذا فقد شخص ما مكانته في ركن من المدينة فبمقدوره الانتقال إلى ركن آخر. كما أن طبيعة المدن كأفران تصهر مختلف العادات والثقافات جعلت من الصعب الاتفاق على ما هو عيب أو غير مقبول وقللت من إحساس الخزي، فمهما يكن الفعل الذي اقترفته فلا بد من وجود من يعتقد بصحة تصرفك.
هذا التراجع في سلطة العيب أفقد عملية النصح والإرشاد باستخدام عامل خارجي قدرتها على خلق إطاري أخلاقي واحد يتسع لمجتمع بأكمله، وأوجد الحاجة إلى أدوات القانون والعقاب كتكلفة بديلة عن الضغط الاجتماعي. كما أنه ألغى الوكالة الأخلاقية مما جعل من ثقافة الندم أداة محاسبية وتربوية أكثر فعالية في إعادة الأفراد والمجتمع إلى حالتهم الأخلاقية المفترضة.
وأي مراقب للهيئة يجد أنه جهاز يقدم النصح والإرشاد في محيط اجتماعي مفتوح وبالتالي فإنه يشكل سلطة تقويم ومحاسبة خارجية تعتمد على عامل العيب وليس عامل الندم. وبغض النظر عن رأيك في الهيئة، فإن الأدوات التي تستخدمها لا تتفق مع واقع مجتمعنا الذي يزداد اتساعا وتنوعا وتضمحل فيه سلطة الجماعة على الفرد. فالبشر يغيرون تصرفاتهم استجابة لحوافزهم الداخلية أو خشية من عقاب خارجي.
وإذا اتفقنا على أن أدوات الضغط الاجتماعي على الفرد قد فقدت مفعولها، فإن حضور الهيئة في الأسواق وأوقات الصلوات قد يشكل وكالة تدفع البعض إلى تعطيل حوافزهم الداخلية إيمانا منهم أن مسؤولية تصرفاتهم تقع على الهيئة وليس عليهم.
ثقافة العيب:
- تركيز على الفاعل »أنت مخطئ«
- مصدرها خارجي
- تقود إلى التجنب والاختفاء عن المجتمع
- تفصل المخطئين عن المجتمع
- تركز على التشهير
- تركيز على الفعل »أنا أخطأت«
- مصدرها داخلي
- تعيد بناء علاقة المخطئ بأقرانه
- تقود إلى تصحيح الفعل
- تركز على المحاسبة