نطقت.. ولكن الرماح!
الاثنين / 13 / جمادى الأولى / 1437 هـ - 20:45 - الاثنين 22 فبراير 2016 20:45
أن تتحدث عن حاضر تعيشه أو ماض لبثت فيه أو غد تأمله، ربما يكون ممكنا في حدود أو مقبولا. لكن الحديث عن أمس لغيرك لم تكن تملك إلا الانبهار به أو حاضر له تفيأت بعض ظلاله أو غده الذي تحمل إليه كل حمد، فهو أمر صعب جدا.
رب صدفة خير من ميعاد، مقولة جميلة، لكن الميعاد الذي ينبت من صدفة ربما لا يكون بنفس الجمال. قبل بضعة أشهر مررت بالأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في داره بجدة أحاول أن أرد إليه بعض وفائه منقطع النظير لأستاذيه عبدالرحمن عثمان ومحمد الحافظ، رحمهما الله، وفي وفائه لأستاذه الشيخ محمد الحافظ، رحمه الله، قصص تذهب مثلا.حملت إليه على غير ميعاد كتابا كنت أعلم أنه سيسر به، وهو ديوان «عصفورة أشجاني»، أول ديوان يصدر للشاعر الدكتور أسامة عبد الرحمن، رحمه الله، بعد رحيله. أصر الأستاذ علي أن أدخل وأذعنت فرحا..وسررت برؤيته رغم ما لاحظته من وهن عليه. وبين عبق حديثه أشار بامتنان إلى دعوة لحفل تكريمه من نادي القصيم الأدبي في جمادى الثانية 1436. وأفاض بأسف عن عدم قدرته على الحضور لموافقته رحلته السنوية. وفجأة أشار إلي طالبا أن أحضر المناسبة الكريمة هذه. وظننت أن الأمر مجرد التشرف بالحضور نيابة عنه، لكني علمت منه أن المطلوب أكثر من ذلك، وأكبر مما أستطيع. وجادلته على غير عادة مقترحا أن يجد من يجيد الحديث عنه أفضل مني واقترحت أسماء كانت أكثر التصاقا بمسيرته الرائعة. قلت له إني لا أحمل مؤهلا للحديث عنه إلا أني أحبه..وظننت أن ذلك سيعفيني، فإذا به يقول: في ذلك كفاية!
ظللت في حيرة بما حملت لأنوء بما لم يعد منه مناص ولا عنه خلاص. وكتبت أسطرا ثم جاء خبر تأجيل ملتقى التكريم حتى حين.. وكانت تلك فرصة لرفع القلم. قبل أسابيع التقيت أستاذي الكريم مجددا، وسعدت بما تفضل علي به من وقته وعلمه وذاكرته. وعلمت منه أن نادي جدة الأدبي سيقيم له تكريما، قال في تواضعه إنه لا يستحقه. وقلت في اعتدادي به إنه أقل ما يستحقه، بل إنه مع كل التقدير، يأتي متأخرا جدا. وأسفت أن سفرا ملزما سيمنعني عن حضور التكريم. ووجدتني أستعيد القلم لأكتب كلمات مكفرا عن ذنب غيابي الذي أنا الخاسر الأكبر فيه.
أبو وديع الأستاذ السيد عبد الفتاح أبو مدين يلتصق في الأذهان بعلاقته بالنادي الأدبي بجدة. ومع أهمية تلك المرحلة إلا أن الحقيقة أنها كانت نتاج مسيرة أسبق مليئة بالتحدي ومفعمة بالصبر. أبدى نبوغا في صباه مكنه من أن يجتاز المرحلة الابتدائية في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة التي التحق بها لظروفه في سن أكبر من المعتاد.واضطر إلى العمل بسبب ظروف خاله الذي يعوله وعمل في قيد الصادر في جمرك جدة. واستمر في حياته مكافحا عنيدا ومحاربا واثقا.لم يخن يوما مبادئه ولم يخذل وطنه ولا أمته. انطلق من نصيحة أستاذه الشيخ محمد الحافظ، رحمه الله، بضرورة إتقان مادة التعبير التي كان ضعيفا فيها، ليصبح هو الأبلغ في التعبير بكل معانيه. كتب كثيرا وحاضر وناقش وحاور. أصدر «الأضواء» السابقة، و»الرائد» الرائدة، ورأس «البلاد» لينقلها من الخسارة المادية والمعنوية إلى الفوز في كلتيهما. وجعل من نادي جدة الأدبي نموذجا يحتذى لمن يحتذي، وتجاوز به من المحلية إلى أصقاع العالم العربي. وأحسب -دون مبالغة -أن النادي ما يزال حتى اللحظة يعمل مدفوعا بإخلاص وحماس الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين.ولعل من أصدق ما قيل عنه مقولة الدكتور عبد الله الغذامي «سنسجل لعبدالفتاح أبومدين هذا الدور الفاعل الحقيقي في تفعيل الثقافة وفي تحريكها وفي جعل العمل الثقافي يتحول إلى إنتاج فعلي».
كان الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين إداريا ناجحا، كما هو في الأدب والثقافة والصحافة. وتعامله مع النادي الأدبي عجيب، إذ كان يحرص على كل «قرش» من ميزانيته، واستطاع أن يفعل بالقليل كثيرا، عجز من كان لديهم الكثير أن يفعلوا قليلا مثله. وبالرغم من نشأته التقليدية كان يأخذ بالتطوير ما استطاع إليه سبيلا.ويحسب له بالتقدير أنه أعطى المرأة دورا واثقا في الحضور والمشاركة، في الصحافة وفي النادي. وللأستاذ الكريم ذاكرة ذات عبق خاص، فهو يحدثك عن طه حسين والعقاد وأحمد أمين وغيرهم، وكأنه يعرفهم معرفة الجليس. وبحسه العروبي انطلق ليعرف من كل قطر من يضيف إليه ويضيف به. وهو مجموعة أناس وقدرات قلما تجتمع في فرد. في خريف العمر، ما يزال الأستاذ يستمد من الربيع بهاءه ويقصده حيثما كان. يقرأ ويراجع ويدقق بنفسه، ويكتب أحيانا في صحيفة أرجاء الالكترونية، ويحن بشوق إلى المدينة المنورة التي لم تغب عن قلبه ووجدانه.
الفتى»مفتاح»، الذي دون فيه الأستاذ بعض سيرته قطعة أدبية جميلة لا تقل جمالا في بعض مناحيها عن «أيام طه حسين» الذي يحب. إلا أنها أيضا توثيق لمراحل من حياة المجتمع وثقافته. وما زالت لدى ذلك الفتى حكايات وحكايات، ليت من ينبري لتسجيلها، فهي إرث ثقافي وتاريخي يجب ألا يغيب. وليت النادي أو وزارة الثقافة والإعلام أو إحدى الجامعات تجعل من ذلك مشروعا ثقافيا عاجلا تحسن به إلى الثقافة في بلادنا وتاريخها.
رب صدفة خير من ميعاد، مقولة جميلة، لكن الميعاد الذي ينبت من صدفة ربما لا يكون بنفس الجمال. قبل بضعة أشهر مررت بالأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في داره بجدة أحاول أن أرد إليه بعض وفائه منقطع النظير لأستاذيه عبدالرحمن عثمان ومحمد الحافظ، رحمهما الله، وفي وفائه لأستاذه الشيخ محمد الحافظ، رحمه الله، قصص تذهب مثلا.حملت إليه على غير ميعاد كتابا كنت أعلم أنه سيسر به، وهو ديوان «عصفورة أشجاني»، أول ديوان يصدر للشاعر الدكتور أسامة عبد الرحمن، رحمه الله، بعد رحيله. أصر الأستاذ علي أن أدخل وأذعنت فرحا..وسررت برؤيته رغم ما لاحظته من وهن عليه. وبين عبق حديثه أشار بامتنان إلى دعوة لحفل تكريمه من نادي القصيم الأدبي في جمادى الثانية 1436. وأفاض بأسف عن عدم قدرته على الحضور لموافقته رحلته السنوية. وفجأة أشار إلي طالبا أن أحضر المناسبة الكريمة هذه. وظننت أن الأمر مجرد التشرف بالحضور نيابة عنه، لكني علمت منه أن المطلوب أكثر من ذلك، وأكبر مما أستطيع. وجادلته على غير عادة مقترحا أن يجد من يجيد الحديث عنه أفضل مني واقترحت أسماء كانت أكثر التصاقا بمسيرته الرائعة. قلت له إني لا أحمل مؤهلا للحديث عنه إلا أني أحبه..وظننت أن ذلك سيعفيني، فإذا به يقول: في ذلك كفاية!
ظللت في حيرة بما حملت لأنوء بما لم يعد منه مناص ولا عنه خلاص. وكتبت أسطرا ثم جاء خبر تأجيل ملتقى التكريم حتى حين.. وكانت تلك فرصة لرفع القلم. قبل أسابيع التقيت أستاذي الكريم مجددا، وسعدت بما تفضل علي به من وقته وعلمه وذاكرته. وعلمت منه أن نادي جدة الأدبي سيقيم له تكريما، قال في تواضعه إنه لا يستحقه. وقلت في اعتدادي به إنه أقل ما يستحقه، بل إنه مع كل التقدير، يأتي متأخرا جدا. وأسفت أن سفرا ملزما سيمنعني عن حضور التكريم. ووجدتني أستعيد القلم لأكتب كلمات مكفرا عن ذنب غيابي الذي أنا الخاسر الأكبر فيه.
أبو وديع الأستاذ السيد عبد الفتاح أبو مدين يلتصق في الأذهان بعلاقته بالنادي الأدبي بجدة. ومع أهمية تلك المرحلة إلا أن الحقيقة أنها كانت نتاج مسيرة أسبق مليئة بالتحدي ومفعمة بالصبر. أبدى نبوغا في صباه مكنه من أن يجتاز المرحلة الابتدائية في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة التي التحق بها لظروفه في سن أكبر من المعتاد.واضطر إلى العمل بسبب ظروف خاله الذي يعوله وعمل في قيد الصادر في جمرك جدة. واستمر في حياته مكافحا عنيدا ومحاربا واثقا.لم يخن يوما مبادئه ولم يخذل وطنه ولا أمته. انطلق من نصيحة أستاذه الشيخ محمد الحافظ، رحمه الله، بضرورة إتقان مادة التعبير التي كان ضعيفا فيها، ليصبح هو الأبلغ في التعبير بكل معانيه. كتب كثيرا وحاضر وناقش وحاور. أصدر «الأضواء» السابقة، و»الرائد» الرائدة، ورأس «البلاد» لينقلها من الخسارة المادية والمعنوية إلى الفوز في كلتيهما. وجعل من نادي جدة الأدبي نموذجا يحتذى لمن يحتذي، وتجاوز به من المحلية إلى أصقاع العالم العربي. وأحسب -دون مبالغة -أن النادي ما يزال حتى اللحظة يعمل مدفوعا بإخلاص وحماس الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين.ولعل من أصدق ما قيل عنه مقولة الدكتور عبد الله الغذامي «سنسجل لعبدالفتاح أبومدين هذا الدور الفاعل الحقيقي في تفعيل الثقافة وفي تحريكها وفي جعل العمل الثقافي يتحول إلى إنتاج فعلي».
كان الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين إداريا ناجحا، كما هو في الأدب والثقافة والصحافة. وتعامله مع النادي الأدبي عجيب، إذ كان يحرص على كل «قرش» من ميزانيته، واستطاع أن يفعل بالقليل كثيرا، عجز من كان لديهم الكثير أن يفعلوا قليلا مثله. وبالرغم من نشأته التقليدية كان يأخذ بالتطوير ما استطاع إليه سبيلا.ويحسب له بالتقدير أنه أعطى المرأة دورا واثقا في الحضور والمشاركة، في الصحافة وفي النادي. وللأستاذ الكريم ذاكرة ذات عبق خاص، فهو يحدثك عن طه حسين والعقاد وأحمد أمين وغيرهم، وكأنه يعرفهم معرفة الجليس. وبحسه العروبي انطلق ليعرف من كل قطر من يضيف إليه ويضيف به. وهو مجموعة أناس وقدرات قلما تجتمع في فرد. في خريف العمر، ما يزال الأستاذ يستمد من الربيع بهاءه ويقصده حيثما كان. يقرأ ويراجع ويدقق بنفسه، ويكتب أحيانا في صحيفة أرجاء الالكترونية، ويحن بشوق إلى المدينة المنورة التي لم تغب عن قلبه ووجدانه.
الفتى»مفتاح»، الذي دون فيه الأستاذ بعض سيرته قطعة أدبية جميلة لا تقل جمالا في بعض مناحيها عن «أيام طه حسين» الذي يحب. إلا أنها أيضا توثيق لمراحل من حياة المجتمع وثقافته. وما زالت لدى ذلك الفتى حكايات وحكايات، ليت من ينبري لتسجيلها، فهي إرث ثقافي وتاريخي يجب ألا يغيب. وليت النادي أو وزارة الثقافة والإعلام أو إحدى الجامعات تجعل من ذلك مشروعا ثقافيا عاجلا تحسن به إلى الثقافة في بلادنا وتاريخها.