الرأي

على قدر النوايا تكون العطايا

السوق

صالح كامل
لم يفارقني الأمل يوما - بعد التوكل الدائم على الله - في كل مرحلة من مراحل حياتي، والتي تقلبت فيها بين أمل وعمل، منذ أن أدركت أن الأمل وحده لا يكفي لتحسين حياة وتحقيق رغبات مشروعة، من حق الطموح أن يرغبها ويسعى لتحقيقها، دون إغضاب لرب الناس، ودون سعي حثيث لإرضاء الناس. فقد علمونا منذ نعومة أظفارنا أن رضا الناس غاية لا تدرك. ولا أنكر أنه كلما كان الحال رقيقا، نمت أحلام الفتى وتطلعاته، وأسمى تلك الأحلام ما أشركت فيها أهلك وتجاوزتهم إلى المقربين والمحيطين بك. عندها قد لا تخشى أن يطلع عليها الجميع، بل قد يساعدك هذا الإشهار في الحصول على عون الجميع، بعد عون الله تبارك وتعالى.

ولقد تعلمت كثيرا وتسلحت بفضيلة الصبر، التي ملأ الله بها قلب أمي وأبي، رحمهما الله وجزاهما عني وأهلي خير الجزاء.

تعلمت أن أكون صبورا إذا اُبتليت، كما أكون شكورا إذا عوفيت، فإن الصبر ضياء في الطريق، والشكر خير زاد ورفيق. وتعلمت أن أسأل الله العافية قبل الصبر، لأن الصبر لا يأتي إلا بعد البلاء، ورسولنا الأكرم، عليه أفضل الصلاة والسلام، يقول (من يتصبر يصبره الله)، أي من يتكلف الصبر على ضيق العيش ومكاره الدنيا، فإن الله سيؤيده. وكما قال الحبيب المصطفى، عليه صلوات ربي وملائكته وسلام الناس أجمعين (وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)، وكلما عظم البلاء عظم عند الله الجزاء، وإذا صبر الإنسان فلم يجزع، ولم يتضجر أو يسخط أو يتأفف جازاه الله بأجر كبير، قد لا يخطر على باله، وأنعم الله عليه في كل أحواله. وهو القائل (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). ولم أجد في الدنيا خيرا من فضيلة الصبر، ولا خيرا من تقوى الله.

لقد جنبتني تقواه، حتى مجرد التفكير فيما يغضبه. وكنت قد رويت يوما قصتي مع فضيلة الشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي، حين هممت بأخذ قرض من بنك لأبدأ أول مشروع كبير في حياتي، بعد سلسلة من المشاريع الصغيرة، التي لا تتطلب تمويلا ماليا يتعدى المليون ريال، واستوقفتني أمي - يرحمها الله - سائلة عن وجهتي، وبعد أن طلبت منها الدعاء بالتوفيق، أشارت عليّ أن أسأل الشيخ، يرحمه الله، فنصحني بالإعراض عن القرض، واللجوء إلى مسألة المضاربة، وهي نظام يجعل صاحب المال وصاحب العمل شريكين يتقاسمان الربح ويشتركان في الخسارة. وتلا علي الآية الكريمة التي أزين بها كل مسكن لي أو مكتب (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).

ولقد خطر على بالي أخي وزميلي الأستاذ عبدالله عمر خياط، ومقالته التي خصني بها يوما في صحيفة عكاظ «مع الفجر» وهو يطلب مني أن أروي بعض تجاربي العملية في الحياة، ظنا منه أنها قد تفيد نفرا من الشباب في حياتهم اليوم. ولم أجد في استجابة له خيرا من أن أبدأ بالمقدمة التي أسلفت، والتي قاربت عناصرها بين طرفي الأمل والعمل في حياتي.

وحقيقة لم يفارقني الأمل أن أبدأ مع كل فكرة أو خاطرة، وكم كان ينهرني حين أتوقف لبرهة عن عمل في يدي، وكأنه يقول «الأمل يا صالح وحده ما يؤكّل عيش، اعمل لاستمر في داخلك يافعا مزدهرا، اعمل لتحقق ما تأمل، وأتقن ما تعمل». وكنت دائم الاستجابة لندائه، حتى غدا الإتقان همي، وصار عبئا على كل من تشرفت بالعمل معهم وعملوا معي. ولا أعني بالإتقان أني أمسيت عارفا أو خبيرا، لدرجة أنني أقرر الإتقان فأجده حاضرا بين يدي، ولكنني تعلمت أن الإتقان هو وليد عشرات التجارب وأنه الصديق المخلص لكل محارب، ومثلي (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). وتعلمت أن النية الصالحة مع الإتقان هي التي تجلب الخير، وعلى قدر النوايا تكون العطايا.

لذا أقول لأبنائي وبناتي وللأحفاد حتى: ضعوا النية الحسنة في قلوبكم، وترجموها إلى أفعال، وسيتولى الله جميع أموركم، وتجاهلوا ثلاثا: «سمعت - وقالوا - ويقولون».

وكم أغبط هذه الأجيال المتلاحقة على كل ما يتوفر لهم منذ حين، من مصادر ونظريات تعج بها قاعات الدرس، وبطون الالكترون. ولكني ما زلت مصرا على أن التجارب الشخصية تبقى مصدرا موثوقا للمعرفة واكتساب الخبرات، ويعلم الله أنني ما زلت متدرجا في الإحاطة بكل جديد ومفيد، ذلك أنه فوق كل ذي علم عليم.

وما أعظم النفع وأعم الفائدة، إذا اقترن العلم والخبرة، وإن كنت منحازا قليلا إلى الخبرة، ظنا مني أن كثيرا من المؤلفات والنظريات قامت على تطبيقات عملية وخبرة سابقة في أي مجال.

وعلّنا من هذا المنطلق وبهذا المنطق، ندرك الفارق بين التاجر القديم، وتاجر اليوم، التاجر القديم ربما ورث الصنعة عن آبائه، وتاجر اليوم درسها أكاديميا، والناجح منهما من لجأ إلى توليفة يوظف فيها المصدرين، ويمزج فيها بين العنصرين. ولأني أخشى أن أرمى بغرور أو تعال، أحجم عن ذكر بعض الأمور، ولكن للتدليل أحتاج أحيانا إلى ذكر شيء موجز، راجيا حسن ظنكم.

جلست يوما في الغرفة التجارية بجدة، مع باقة عطرة من أساتذة الاقتصاد الجامعيين، ولم أكن أود الحديث إليهم بقدر رغبتي في الاستماع منهم، فالاستماع عندي فن يفوق فن الحديث نفسه، ولم يكن بين الأكاديميين نفر أو فرد له حاجة عندي أو عند الغرفة، فأولئك قوم تجارتهم تختلف عنا، وأرجو أن تكون التجارتان رابحتين، إن شاء الله.

وحين فرغوا وسمحوا لي بالكلام، وتكلمت في ذات الموضوع الذي أسعدوني ببدئه، أسبغوا عليّ، بعد نقاش مستفيض وحوار مفيد، الكثير من الاستحسان، و... بلاش أكمل.

ومن تواضع بعضهم أنه أكد لي أن الفائدة التي حصلوا عليها في أعقاب هذه الجلسة الفكرية، ربما ستسهم في إضافة جديدة إلى مناهجهم.

أردت من هذه الحكاية أن أنصح كل الأبناء والبنات، ألا يلغوا التجارب البشرية والشخصية من قاموس معرفتهم، معتمدين فقط على ما هو موجود في مناهجهم، فهي في مجملها ملخصات تضيق بالتفاصيل الدقيقة، وهم لم يعد لديهم الوقت الكافي للبحث والتنقيب، إلا من رحم ربي.

أسأل الله لهم التوفيق والسداد. وقد نعود إلى هذه الحكايات، إذا شاء الله لنا ذلك.